الخميس، 25 فبراير 2016

تجديد الخطاب الديني وأصول الحكم

جريدة الاخبار - 25/2/2016

يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، أن الاستبداد هو غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النصيحة. والحكومة المستبدة هي الحكومة المطلقة العنان، والتي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين. ويري الكواكبي أن أفجر أنواع الاستبداد هو الاستبداد باسم الدين. والإسلام جاء مؤسساً علي الحكمة والعزم، ومحكماً لقواعد الحرية السياسية، ونزع كل سلطة دينية أو تغليبية تتحكم في العقول أو النفوس أو الأجساد. فالحكم في الإسلام أساسه العدل بين الناس أي التسوية بينهم. وعلي حد تعبير الكواكبي، فإن الناظر المدقق في تاريخ الإسلام-وللأسف -يجد للمستبدين من الخلفاء والملوك وبعض العلماء وبعض مقلديهم من العرب المتأخرين أقوالاً افتروها علي الله ورسوله، تضليلاً للأمة عن سبيل الحكمة.

وقد كان الشيخ/ علي عبد الرازق أول من تصدي من المحدثين إلي ما أصاب مفهوم الخلافة من انحراف أدي إلي الاستبداد باسم الدين، وذلك في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، والذي نشره عام 1925. فيقول الشيخ الجليل أن لقب خليفة رسول الله، والذي كان أول من لقب به الخليفة "أبو بكر الصديق" رضي الله عنه، أحاط به كثير من المفاهيم الخاطئة جعلت من الخلافة مركزا دينيا. وكان من مصلحة السلاطين أن يروجوا ذلك الخطأ بين الناس حتي يتخذوا من الدين دروعاً تحمي عروشهم حتي أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله وعصيانهم من عصيان الله. ثم ما كان الخلفاء والسلاطين -ومنهم السلاطين العثمانيون - ليكتفوا بذلك ولا ليرضوا بما رضي به الخلفاء الراشدون، بل جعلوا السلطان خليفة الله في أرضه وظله الممدود علي عباده، فزعم أبو جعفر المنصور أنه هو سلطان الله في أرضه. وقال عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته باشتمال منصب الخلافة علي الدين والدنيا، وجعل جانب من الفقهاء أن للخليفة وحده الأمر والنهي، وأن كل ولاية دونه فهي مستمدة منه، وكل وظيفة تحته فهي مندرجة في سلطانه، وكل خطة دينية أو دنيوية فهي متفرعة عن منصبه.


وصار بند الخلافة في الفقه يلتصق بالمباحث الدينية -علي حد قول الشيخ/ عبد الرازق، وصارت الخلافة "جزءًا من عقائد التوحيد"، يدرسه المسلم مع صفات الله تعالي وصفات رسله الكرام، ويلقنه كما يلقن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله!!!
ويصف الشيخ/ عبد الرازق ذلك بالجناية، فيتهم الحكام بأنهم غذّوا هذا الفكر الاستبدادي، وأنهم حجبوا عن شعوبهم مسالك النور باسم الدين، واستبدوا بهم أيضاً باسم الدين وأذلّوهم، وحرّموا عليهم النظر في علوم السياسة، و"باسم الدين خدعوهم وضيقوا علي عقولهم، فصاروا لا يرون لهم وراء ذلك الدين مرجعاً، حتي في مسائل الإدارة الصرفة، والسياسة الخالصة". وقد أرجع الشيخ/ عبد الرازق تنامي هذا الاتجاه نتيجة جمود الفقه، وموات قوي البحث ونشاط الفكر بين المسلمين مما أصابهم بشلل في الفكر السياسي والنظر في كل ما يتصل بشأن الخلافة والخلفاء.

ويري الشيخ/ علي عبد الرازق، أن الدين الإسلامي بريء من شطط الفقه الذي ربط به الخلافة والاستبداد، فالدين الإسلامي بريء من كل ما هيأوا حول الخلافة والحكم من رغبة ورهبة ومن تصرف في شئون الرعية بلا مسئولية.

ويختم الشيخ بحثه بما هو أقرب إلي الصرخة: "لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخري، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه وأن يبنوا نظام حكومتهم، علي أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم علي أنه خير أصول الحكم".

وقد تعرض الشيخ/ علي عبد الرازق بسبب آرائه المجددة لهجوم عنيف من رجالات الملك فؤاد في ذلك الوقت، فقد كان لدي هذا الأخير الطموح لكي يصبح خليفة المسلمين علي حساب أنقاض الخلافة العثمانية، كما تعرض الشيخ لهجوم عنيف من الأزهر ورجالاته، واعتبروا ما يقوله الشيخ خروجاً عن القواعد الأصولية، وإنكاراً لما هو معروف من الدين بالضرورة، وجرّدوه من شهادة العالمية، واتفق القصر مع لجنة كبار العلماء، فاستتبع ذلك فصله من عمله من القضاء.

إن ما قاله الشيخ/ علي عبد الرازق، ومن قبله الكواكبي، وما قاله الإمام/ محمد عبده في ذات السياق، وما سار عليه أحمد لطفي السيد باشا وزملاؤه؛ لم يكن للإيحاء بالبعد عن الدين أو فصل الدين عن الدنيا، وإنما كان نداء لفهم الدين علي صورة أخري، وتجديد خطابه وفقهه، و"تخليصه من الخرافات والأوهام والتفسيرات الخاطئة" علي حد تعبير محمد زكي عبد القادر في كتابه "محنة الدستور" الذي أصدره عام 1953.

لقد كانت حركة الإخوان المسلمين تعتمد في جوهرها علي إحياء فكرة الخلافة في الحكم بكل ما يشوبها من تشوهات، وهل لنا أن ننسي الصيحات التي أطلقها تجار الدين في قاعة المؤتمرات الكبري في عام 2013. لقد نشأت حركة الإخوان علي يد الشيخ/ حسن البنا بعد سقوط الخلافة العثمانية، واعتمد مؤسس الجماعة علي إحياء فكرة الخلافة بكل تشوهاتها، فهل هذا ما يريده شيوخ الأزهر وفقهاء الدين لمصرنا وشعوب المسلمين؟

هل حقاً تتعارض الدولة الحديثة ونظم الحكم المقارن مع الشريعة الإسلامية؟ هل تتعارض شريعتنا مع السلطة المقيدة للحاكم؟ هل تتعارض الانتخابات البرلمانية والرقابة البرلمانية علي الحكومة مع أحكام الشريعة الإسلامية؟ هل تتعارض أفكار تداول السلطة التنفيذية مع مبادئ الشريعة الإسلامية؟ هل يتعارض النظام الجمهوري الدستوري مع قواعد شريعتنا؟ هل يوجد أي تعارض بين أحكام الشرع ونظم الإدارة الحديثة، وقواعد الحوكمة والإدارة الرشيدة؟ هل النظم الحديثة تتعارض مع الشريعة أم تتعارض مع آراء الفقهاء الأوائل؟ هل الخلافة أصل من أصول الإسلام رغم أنه لم يرد ذكرها في القرآن لا تصريحاً ولا تلميحاً؟!! أما آن الأوان لتجديد الخطاب الديني كما نادي الرئيس السيسي وإحياء الفقه الإسلامي وعلاجه مما أصابه من جمود وتقليد علي مدار قرون طويلة؟ أما آن الأوان لرجالات الأزهر والفقهاء المعاصرين لكي يكونوا عوناً للمصريين علي بناء مصر الحديثة، وأن يكونوا جزءًا من المستقبل، والحل، وشركاء في النهضة والتنمية؟

هل يعيب ديننا الحنيف أن نرجع في تدبير الجيوش، وعمارة المدن، وتنظيم الدواوين الحكومية، وإصلاح النظام المؤسسي للجهاز الحكومي، وتطبيق النظم الإلكترونية في الإدارة، وتداول السلطة بالانتخاب؛ إلي آراء العارفين والمتخصصين من غير رجال الدين؟ إذا كانت إجابتكم بأنه لا يوجد ما يمنع؛ فأرجوكم ارفعوا صوتكم، وجاهروا بآرائكم، وحدثوا الفقه، ولا تحاربوا التجديد ولا الحداثة فكم من جرائم ترتكب باسم الإسلام، وهو منها براء، هل حقاً من يلاحقون الكتاب والمفكرين ببلاغات وتهم ازدراء الدين يسعون للدفاع عن الدين الإسلامي الحنيف أم يسعون إلي الشهرة والأضواء، ولو علي حساب الدين والحريات بل علي حساب مصر واستقرارها؟ اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق