تم التصويت على دستور مصر الجديد، وتم وضع مصر كلها أمام
الأمر الواقع. وأقولها بعيداً عن أية مؤثرات سياسية، فإن دستورنا الجديد معيب،
ومقوماته الاقتصادية لا تصلح لدفع مصر إلى المستقبل وإنما تشده إلى الخلف. وعلينا
أن نبدأ من الآن في تعديله!! واستكمال بناء دستور صدر نصف تشطيب.
ومن أولى المواد
المتعلقة بالاقتصاد، وتحتاج إلى علاج هي المادة (14). فالمادة المذكورة تربط الأجر
بالإنتاج، وهو أمر لا بأس منه، ولكن تستوجب العدالة الاجتماعية ربط الأجر والحد
الأدنى له كذلك بمعدلات التضخم وقد أكد المشرع الدستوري على وضع حد أدنى للأجر،
وكان الأولى به التزام الدولة بحد أدنى للدخل أسوة بالدستور الألماني. فالمحافظة
على كرامة الإنسان المصري وخاصة غير القادرين على العمل تستوجب التزام الدولة
بضمان حد أدنى لدخلهم لتحقيق حد أدنى من الحياة الآدمية لأبناء هذا الوطن خاصة أن
أكثر من 10 مليون مصري يقل دخلهم عن 250 جنيه شهرياً!!! فأولى مبادئ الاقتصاد الحر
الاجتماعي هو التدخل المحدود للدولة في علاقات العمل مقابل تنظيم دورها للحد من
الفقر وضمانة عدالة علاقات العمل وصحتها وتقوية مجتمعات العمل وقدراتهم الفنية
والتفاوضية.
ومن الأمور التي يتضمنها
الدستور الجديد، وتتعارض مع أبسط المفاهيم الاقتصادية، هو ما جاء في المادة (24)
والتي تنص على حماية الملكية الخاصة دون "احتكار"، والمادة في ظاهرها
تبدو لغير المتخصص واضحة وعادلة، ولكنها تبدو مادة مضحكة للمتخصصين إذ إن ما تحظره
كافة قوانين العالم دون استثناء هو الممارسات الاحتكارية غير المشروعة وليس
الاحتكار ذاته، فالاحتكار يعني السيطرة على السوق بشكل معين كأن تقوم شركة بإنتاج
دواء معين لا تنتجه غيرها، فشركة فايزر للأدوية شركة محتكرة، وشركة
مايكروسوفت العالمية شركة محتكرة، والشركة المنتجة لـ "بامبرز"
ولا مؤاخذة شركة محتكرة فالدستور المصري يحظر هذه الشركات!!، وتعد شركات توزيع
الكهرباء الحكومية محتكرة، والشركة المصرية للاتصالات محتكرة، كما أن أبسط
مبادئ الاقتصاد الاجتماعي هو حرية المنافسة بين الشركات الخاصة والعامة على حد
سواء لتحقيق أفضل خدمة وأرخص سعر للمستهلك، فلا يجوز الترخيص بالاحتكار للشركات
العامة ما لم يكن ذلك لمقتضيات الأمن القومي أخذاً في الاعتبار أن القطاع الخاص
بشقيه الرسمي وغير الرسمي يوظف حوالي 14 مليون مصري في حين يوظف القطاع العام
حوالي 5,6 مليون مصري ما هذا العبث؟
ومن عجائب الدستور
الجديد في المادة (27) منه أنه في الوقت الذي عانى قطاع الأعمال العام من الفساد
الإداري والمالي، وعانى من سوء الإدارة وعدم الفصل بين الملكية والإدارة جاء لينص
على ألا يقل تمثيل العمال في مجالس الإدارة عن 50% من مجالس إدارة وحدات القطاع العام.
وناهيك عن التسمية الخاطئة إذ لم يعد مصطلح القطاع العام مستخدماً إلا فيما ندر،
فإن المشرع الدستوري نص على تمثيل العمال بما لا يقل عن 50% من هذه الشركات، فصار
الواقع العملي أن تشكل مجالس الإدارة من العمال وموظفي الحكومة دون اعتبار
للكفاءات الفنية. وهو ذات الوضع القائم قبل ثورة (25) يناير وأدى ضمن عوامل أخرى
إلى انهيار القطاع العام الاقتصادي فليس من المفهوم ماذا يريد المشرع الدستوري من
هذا النص، فلو كان يريد حماية حقوق العمال فإنه كان الأولى به دعم إنشاء النقابات
المستقلة بدلاً من تقييدها، وكان عليه دعم آليات المفاوضات الجماعية وتمكين العمال
من حماية حقوقهم. إن الإدارة لها فن وأصول فجاء الدستور الجديد ليزيد من أوجاع
قطاع الأعمال وسوء الإدارة.
ونأتي إلى المادة
(121) والتي تقضي بعدم الارتباط بمشروع يترتب عليه إنفاق مبالغ من الخزانة العامة
للدولة لمدة مقبلة إلا بعد موافقة مجلس النواب. فخطورة هذه المادة أنها تستلزم
موافقة مجلس النواب على أي مشروع مهما بلغت قيمته، وحتى لو كان ضمن خطة الدولة،
والموازنة، وحتى ولو كان إنشاء المشروع بناءً على قانون. فضمان وزارة المالية
لالتزام وزارة الصحة بإنشاء مستشفى تعليمي يقتضي موافقة مجلس النواب على إنشاء
المستشفى، وهكذا بالنسبة للمدارس والطرق والكباري ومحطات الكهرباء والمياه. هل
يندرج ذلك ضمن الرقابة على السلطة التنفيذية أم أنه يحل مجلس النواب محل الحكومة.
وحتى لا أتهم بإثارة المشاكل، فإنني أضرب لكم مثلاً عملياً شاهدته خلال الأسبوع
الماضي، فبعد التصويت على الدستور في المرحلة الأولى توقفت كافة البنوك عن تمويل
مشروع إنشاء وتطوير مستشفى تعليمي، يستوجب قيام طيه وزارة المالية قيام وزارة
الصحة بأداء التزاماتها المالية بضمان حيث اشترطت البنوك في ظل المادة (121)
موافقة البرلمان على المشروع، هل نحن مع التنمية أم مع التعطيل، هل لكم أن تتخيلوا
كيف يمكن أن يؤثر ذلك سلباً على إنشاء المشروعات وخاصة ما يتعلق بالصحة والتعليم
ومرافق البنية الأساسية وهل من مقتضيات الرقابة الموافقة على مشروع بمشروع أياً
كان حجمه وقيمته حتى ولو كان متضمناً في الموازنة العامة للدولة، وصدر بناءً على
قانون وفي حدود صلاحيات الحكومة.
وأخيراً فإن المبادئ
الاقتصادية الخاصة بالزراعة والتنمية والصناعة واستغلال الموارد الطبيعية جاءت
أقوالاً مرسلة وعبارات خاوية لا يمكن أن تصلح لكي تكون مقومات اقتصادية لبناء مصر
الحديثة.
أياً ما كان الأمر، فإن دستور مصر الجديد جاء مخيباً
للآمال وطموحات مصر الحديثة، فلا شك عندي أن ذلك الدستور المعيب ولد هزيلاً مصاباً
بأمراض عضال تحول دون استمراره فتياً قادراً على حمل آمال هذه الأمة. وبعيداً عن
الدستور، فإن الأشهر القليلة القادمة تحمل تحديات اقتصادية ومخاطر مالية جسيمة
محيقة بجسد الوطن العليل فيكفي أن الاحتياطي من النقد الأجنبي لا يكفي لمواجهة
شراء احتياجات مصر من السلع الأساسية لمدة تزيد عن 3 أشهر، وهو ما يهدد بكارثة
اجتماعية، فلو لم نتفق على تكوين حكومة كفاءات وطنية تضم أفضل ما في الوطن من عقول
بغض النظر عن ميولهم السياسية، فإن شرور الانهيار الاقتصادي ستلحق بالجميع ولن
تفرق بين أبناء الوطن الواحد .... أفلا تعقلون.