الخميس، 31 مارس 2016

مذبحة رؤساء البنوك التجارية الخاصة

جريد الاخبار - 31/3/2016

فليس له بديل سوي الرجوع إلي البرلمان واقتراح تعديل القانون بإضافة تعديل تشريعي يخول للبنك المركزي وضع حد أقصي لعضوية مجالس الإدارة بالبنوك


أصدر مجلس إدارة البنك المركزي في 23 مارس قراراً غريباً عجيباً لا مثيل له في عالمنا المعاصر. فنص القرار علي إنهاء خدمة كل الرؤساء التنفيذيين للبنوك التجارية الخاصة إذا مضي علي أي منهم في منصبه تسع سنوات أو أكثر سواء كانت سنوات خدمته في البنك متصلة أو منفصلة. 

وهذا القرار يستوجب إنهاء خدمة عشرة رؤساء تنفيذيين للبنوك المصرية من إجمالي أربعين، بمعني آخر فإن 25% من رؤساء البنوك الحاليين عليهم أن يجلسوا في بيوتهم.... هكذا قرر البنك المركزي المصري. هذا القرار ينطبق علي العديد من البنوك التجارية الخاصة الناجحة، مثل البنك التجاري الدولي أفضل بنك تجاري خاص في مصر، والبنك العربي الأفريقي أكثر البنوك الخاصة نمواً وتطوراً علي مدار العشر سنوات الماضية، وغيرهم من البنوك الخاصة مثل بنك فيصل الإسلامي، والبنك الكويتي الوطني.. علي مساهمي هذه البنوك أن يجدوا بدلاء لهؤلاء الرؤساء التنفيذيين الناجحين، ولهؤلاء الأخيرين الخيار إما الجلوس والقعود في بيوتهم آمنين، أو السعي وراء العمل داخل مصر، والأفضل لهم العمل خارجها. هذا القرار يذكرني بمذبحة القضاء عام 1969 حيث تم إنهاء خدمتهم، وتعيينهم من جديد فخرج كل من كان صاحب رأي أو كان مشكوكاً في ولائه التام أو المطلق للرئيس جمال عبد الناصر.. ولم يكن من المستغرب أن يثير هذا القرار الكثير من الجدل نظراً لخطورته وشذوذه عن المألوف في الأعراف المصرفية الدولية، ولاعتدائه علي حقوق المساهمين، خاصة وأن معظم رؤساء البنوك الذين طالهم القرار ناجحون في أعمالهم، وأصحاب رأي ورؤية وحققوا نجاحات كبيرة في مجال أعمالهم.. وبعيداً عن القيل والقال، دعونا نحاول استقراء هذا القرار وفهمه وتحليله وتقييمه من الناحية الموضوعية.

وطبقاً لما ورد حرفياً في حيثيات قرار البنك المركزي فإنه يسعي - أي البنك المركزي - من وراء هذا القرار إلي «... إثراء وتحديث الجهاز المصرفي.... وإعداد صف ثانٍ ودفع بالشباب والصفوف الثانية للأمام وضخ دماء جديدة في شرايين المؤسسات». 

وبعيداً عن العبارات الفضفاضة البعيدة عن الانضباط المهني والقانوني لما يجب أن تكون عليه مفردات قرارات البنك المركزي، فإن تقييم هذا القرار يجب أن يكون من خلال محددات ثلاثة:

المحدد الأول: مدي مشروعيته ومطابقته للقانون.

المحدد الثاني: هو مدي ملاءمة القرار، وخطورة آثاره علي القطاع المصرفي.

المحدد الثالث: هو مدي مراعاة القرار للأعراف المصرفية الدولية ومدي التزامه بمبادئ حوكمة البنوك المستقر عليها.

ومن الناحية القانونية، فإن القرار - في رأيي - جاء مخالفاً للقانون بشكل مريع. فهو يسلب حقاً من الحقوق الأصيلة للمساهمين دون سند من القانون، فوضع حد أقصي لمدة عمل الرئيس التنفيذي في شركة خاصة أو بنك خاص دون نص في القانون هو إضافة لشرط، واغتصاب لسلطة المشرع أي البرلمان، وانحراف لسلطة الرقيب، وافتئات علي صلاحيات الجمعيات العمومية للمساهمين دون نص تشريعي.

لقد أعطي المشرع صلاحيات محددة للبنك المركزي فيما يتعلق بتعيين رؤساء البنوك أو عزلهم، ونص علي هذه الصلاحيات علي سبيل الحصر لأنها تمثل استثناءً علي القواعد العامة. فنصت المادة (43) من قانون البنك المركزي، علي أنه دون إخلال بسلطة الجمعية العامة للبنك التجاري، يتم أخذ رأي محافظ البنك المركزي عند تعيين رؤساء وأعضاء مجالس إدارة البنوك. كما أعطي المشرع الحق للبنك المركزي في حالات محددة أن يطلب من الجمعية العامة للبنك التجاري تنحية واحد أو أكثر من أعضاء مجلس الإدارة شريطة أن يثبت أن هذا العضو قد خالف قواعد السلامة لأموال المودعين وأصول البنك.

فبعبارة بسيطة، لا يجوز للبنك المركزي أن ينهي خدمة أي من الرؤساء التنفيذيين للبنوك الخاصة لأي سبب بخلاف تلك التي حصرها القانون والممثلة في الإخلال الجسيم بواجبات الوظيفة والمساس بحقوق المودعين، وأموال البنك. فلا يجوز قانوناً للبنك المركزي أن يقيل رئيساً تنفيذياً لأنه ثقيل الظل أو أمضي وقتاً طويلاً في رئاسة البنك، أو أنه لا يجيب علي تليفونات محافظ البنك أو أنه يعقد صفقات أو يبيع أصولاً تحقق مصلحة المودعين والمساهمين، ولكن المشتري دمه ثقيل علي قلب المسئولين، هذه الأسباب جميعها لا تنهض سبباً لإنهاء خدمة رؤساء البنوك.. ففي غير الحالات التي وضعها القانون علي سبيل الحصر تظل السلطة للمساهمين والجمعية العامة، فسلبهم لهذا الحق هو إهدار لحقوق الملكية فإذا تعارضت مصالح المساهمين مع مصالح المودعين كانت الأولوية لحماية مصالح المودعين في الحالات التي حصرها المشرع. ووضع حد أقصي لمدة أعضاء مجلس الإدارة، وحرمان حق المساهمين من تجديد العضوية هو بمثابة إضافة شرط جديد ليس للجهة الرقابية الحق في إضافته فهي بهذا الشرط تغتصب صلاحيات الجمعية العامة للمساهمين وتحرمهم من حق أصيل مرتبط بالملكية دون سند من القانون. فبلغة رجالات القانون الإداري يعد هذا القرار هو والعدم سواء بسبب عدم مشروعيته ولاغتصابه صلاحيات وسلطات لم يسوغها القانون للجهة الإدارية مصدرة القرار.

فإذا كان هناك بُد، ومصلحة مشروعة تسعي الجهة الإدارية لتحقيقها، وأعني هنا البنك المركزي، فليس له بديل سوي الرجوع إلي البرلمان واقتراح تعديل القانون بإضافة تعديل تشريعي يخول للبنك المركزي وضع حد أقصي لعضوية مجالس الإدارة بالبنوك، ويخضع في قراراته هذه لرقابة القضاء الإداري.

فلا يجوز لأية جهة إدارية أن تعصف بالقانون وتتجاهله وتزدريه لأنها تري أن القانون غير مقنع أو كافٍ، فلا يجوز للجهة أن تنشئ حكماً قانونياً جديداً لم يصرح به المشرع.

وأما من ناحية ملاءمة القرار وتوقيته، فمن حق المتابع للأمور أن يتساءل هل تغيير 20% أو 25% من قيادات القطاع المصرفي الناجح في ذات التوقيت أمر يصب في مصلحة القطاع المصرفي والمصالح الاقتصادية للدولة؟ هل اضطراب الجهاز التنفيذي للبنوك التجارية الخاصة يصب في المصلحة العامة؟ هل إنهاء خدمة رؤساء تنفيذيين نجحوا في مهامهم ولم يخالفوا القانون أمر يصب في مصلحة هذه البنوك ومساهميها والمودعين؟ هل من الملائم تطبيق قرارات إنهاء الخدمة بأثر رجعي؟ هل التدخل في قرارات المساهمين بدون نص تشريعي يصب في مصلحة الاستثمار في مصر؟ هل الخلط بين العام والخاص أمر منطقي؟ هل إصدار قرارات مربكة يعد قراراً يصب في مصلحة الاستقرار المالي أم أنه يعمق الاضطراب المالي؟ هل إصدار قرارات من هذا النوع في ظل وجود شبهات بخلافات شخصية قرار حكيم؟ هل عرض أي من هؤلاء الرؤساء التنفيذيين أموال المودعين للخطر؟ هل يعد هذا القرار تأميما لإدارة البنوك الخاصة؟ ألا يعد هذا القرار كيلاً بمكيالين، لأن هناك العديد من القيادات التنفيذية بالبنك المركزي ذاته مضي عليهم في مناصبهم أكثر من تسعة أعوام؟

وبالرجوع إلي كافة التشريعات المقارنة، والقواعد الرقابية الصادرة عن البنوك المركزية علي مستوي العالم، وبمراجعة مقررات «بازل» الخاصة بالبنوك، والمراجعة المتأنية لكافة قواعد الحوكمة بالبنوك وعلي وجه الخصوص تلك التي صدرت في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008 بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي... كلها جاءت خالية من قواعد أو قيود مشابهة لتلك التي صدرت مؤخراً عن البنك المركزي المصري: قواعد الحوكمة في العالم كله المطبقة علي الرؤساء التنفيذيين تستهدف عدم هيمنة الرئيس التنفيذي علي مجلس الإدارة وتشكيله، وعدم طغيان صلاحياته علي صلاحيات المجلس، وذلك من خلال وضع صلاحيات محددة وإجراءات معينة، وضمان تواصل الرئيس التنفيذي مع مساهميه، والإفصاح عن كافة ما يقوم به من قرارات وإجراءات.

إن تحديد مدة عمل الرئيس التنفيذي في حد ذاته ليست ضمانة لتحقيق الحوكمة أو حماية حقوق المودعين، ولذلك لم تتطلب أية تشريعات أو قواعد دولية تحديد مدة عمل الرئيس التنفيذي. نيجيريا عام 2010 لجأت إلي هذه الحيلة للتخلص من رؤساء البنوك الفاسدين. فهل يري البنك المركزي ذات المبررات التي لجأت إليها نيجيريا للتخلص من رؤساء البنوك المصريين؟

للأسباب السابقة، فإنني أعترض علي قرار البنك المركزي، فهو من الناحية القانونية مخالف للقانون، وباطل، ومن حيث الملاءمة فهو ضار ويمثل مذبحة لرؤساء البنوك الخاصة بلا موجب، ومن ناحية مطابقته للأعراف المصرفية الدولية فقد جاء ببدعة، وأطاح بكل مبادئ الحوكمة المتعارف عليها دولياً. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الخميس، 24 مارس 2016

المدرب في الكرة المصرية والتعديلات الوزارية

جريدة الاخبار - 24/3/2016

وكانت المأساة في مباراة ودية بدأناها متأخرين فبدأت الدنيا تظلم واحنا لسه في الملعب، ودخل في مرماي هدفان في آخر خمس دقايق لأني مشفتش الكورة.

أقسم بالله أن المشكلة فيمن يَختار وليس فيمن يُختار.

تحسن المستوي الفني بشكل لا بأس به للدوري المصري خلال هذا الموسم الكروي. ولا شك أن ابتعاد الجماهير الكروية عن المدرجات للموسم الخامس علي التوالي يحرمها من أهم عناصر المتعة والإثارة فيها. واحد ممكن يقوللي: وإنت مالك ومال الكرة ما تخليك في السياسة ولا القانون شغلتك، ولا الأزمة الاقتصادية اللي عمالين تكلمونا عليها صبح وليل؟ ورغم أنني أفهم في الكرة بعض الشيء حيث مارستها كحارس مرمي ناشئين بالنادي الأهلي؛ إلي أن توقفت عن اللعب بسبب ضعف النظر حيث وصل نظري إلي (-6) وكان عمري 16 سنة، وكانت المأساة في مباراة ودية بدأناها متأخرين فبدأت الدنيا تظلم واحنا لسه في الملعب، ودخل في مرماي هدفان في آخر خمس دقايق لأني مشفتش الكورة!! ورجعت بيتنا ومن ساعتها لم أدخل النادي الأهلي مرة أخري لاعباً...

المهم أنا باكتب النهاردة عن المدربين المصريين في دوري الكرة لأنه وضعهم فكرني بالتعديلات الوزارية التي تجري الآن، والتي ربما تعلن عند نشر هذا المقال... الحقيقة نحن نحاسب مدربي فرق الأندية بالقطعة، مباراة بمباراة... كسب الماتش فهو أفضل من في جيل المدربين، وإذا خسر مباراة فهو أسوأ مدرب علي وجه الأرض ولا يصلح أن يدرب النادي المعني!! الدوري المصري لعله من أكثر المسابقات في العالم التي تشهد تغييراً للمدربين خلال الموسم الكروي، فمتوسط عدد المدربين لكل فريق خلال الموسم وصل إلي ثلاثة مدربين، حتي النادي الأهلي الذي عرف بأنه أكثر الأندية استقراراً، وهو أشبه بوزارة الدفاع في الحكومة المصرية، قد شهد تغيير خمسة مدربين خلال هذا الموسم الكروي، وفي أقل من عام واحد. إذا خسر مدرب الكرة المصري مباراة أو اثنتين يكون هو دائماً كبش الفداء شأنه شأن الوزير في الحكومات المصرية المتعاقبة خلال الخمس سنوات الأخيرة. إذا جاء مدرب جديد واشتكي أن جهازه التنفيذي في الملعب... (عذراً أقصد لاعبيه) تنقصهم الكفاءة والقدرة علي تنفيذ خططه وغير قادرين علي تحقيق الفوز؛ يرد عليه رئيس النادي: هو ده اللي عندنا... معندناش فلوس وعليك أن تلعب بالموجودين، فيرد المدرب: ولكن هؤلاء اللاعبين لا يصلحون لتحقيق تنمية أو تطوير - آسف تاني أقصد لا يصلحون لتحقيق بطولات، فيرد رئيس النادي: ومين قالك عاوزين بطولات؟ إحنا عاوزين فقط مانهبطش دوري المظاليم - يعني ما ننزلش دوري الدرجة الثانية، فيكون الطموح عند الوزير... عفواً أقصد المدرب، وعند موظفيه... آسف مرة ثانية أقصد عند لاعبيه، مجرد البقاء في البطولة وتسيير الأمور، فيموت الطموح وتسوء النتائج... وإذا وافق المدرب علي التدريب بما هو متاح له من لاعبين بإمكانيات محدودة وخطط غير طموحة؛ فإنه قد يطلب إمداده ببعض المساعدين الأكفاء كمدرب للأحمال، ومدرب لحراسة المرمي، وطبيب يعالج اللاعبين ولا يسبب لهم كوارث، وإداري نشط يحل المشكلات... ولكن حتي هذا لا يمكن لإدارة النادي إجابته لطلبه، فالإمكانات لا تسمح، وحتي إذا سمحت بقدر قليل فهناك تربيطات انتخابية فرضت علي إدارة النادي تعيين هذا أو ذاك مجاملة وسداد فاتورة حساب. فإذا قبل المدرب كل هذا وحاول أن يدرب بما لديه من لاعبين بإمكانات محدودة ومساعدين غير أكفاء؛ فإن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فكل أعضاء إدارة مجلس النادي يتحولون إلي مدربين ويتدخلون في عمله، ويحاولون أن يفرضوا لاعبين بأعينهم عليه، وناهيك عن الجمهور الذي لا يحضر المباريات أصلاً فيتحول كله إلي مدربين ولاعبين يلعنوا أب وأم المدرب إذا أخطأ أحد لاعبيه أو أخفق في إحراز هدف، فإذا خسر مباراتين متتاليتين فإنه يتم عزله فوراً وعلي الهواء مباشرة ودون علمه، ولا يمنع الأمر من تقريظه وتجريسه، وأيضاً عدم سداد مستحقاته... ويستمر مسلسل التغيير والتبديل في المدربين، وتستمر خسارة فرقهم، ويستمر صراخ الجمهور، وغضب مجلس إدارة النادي، وقد يهبط الفريق أو بالكاد يهرب من مصيدة الهبوط، وتتكرر الملهاة كل موسم تقريباً... والحقيقة أن المشكلة ليست في المدير الفني في غالب الأحوال، ولكنها في إدارة النادي وإدارة منظومة الكرة، فلا تتوقع أن تفوز ولو أحضرت أفضل المدربين في العالم، يجب أن تغير منظومة الإدارة واللاعبين ونظم التمويل، وأن تحدد أهدافك بوضوح. ولذلك كثير من المدربين الأكفاء في مصر يفضلون الابتعاد عن التدريب في هذا الجو غير المريح، ويفضلون الانتقال إلي التعليق الفني في القنوات الفضائية، فهو أكثر راحة وأقل عناءً ولا شك يحقق مكاسب مالية أكبر، ويتجنب شتمه داخل الملعب من الجمهور وخارجه من رئيس النادي، ويكون أكثر أريحية وهو ينتقد هذا المدرب وذاك اللاعب من ستوديو التحليل، ودخل مهنة التدريب عدد من المغامرين ممن ليس لديهم شيء يخسرونه.

للأسف الشديد حال المدربين الفنيين للكرة في مصر لا يختلف كثيراً عن حالة الحكومة المصرية والتعديلات الوزارية، فنحن نتعامل مع الأمرين بذات الفكر وبذات المنطق. نظن أن المشكلة في الوزراء كما نظن أن المشكلة في المدربين، ونعتقد أن تغيير الوزير شأنه شأن تغيير المدرب يكفي وحده لحل المشكلة وتحسين الأداء. وأقسم بالله أن العيب ليس فيمن يُختار ولكن العيب فيمن يَختار.. فالوزير مهما كان لن ينجح في أداء مهامه إذا لم نحدد له أهدافاً واضحة - وهو ما نسميه بالرؤية - وما لم يحدد له أولويات هو وزملائه يجب أن يحققوها، ولن ينجح مهما كانت كفاءته لو لم نسمح له باختيار مساعديه وكسر كافة قيود البيروقراطية، ولن يتحرك وزير إلي الأمام إلا إذا تأكد أن هناك حماية قانونية وسياسية لقراراته المشروعة، وأن كل أعضاء الحكومة - بمن فيهم رئيس الحكومة - مسئولون مسئولية تضامنية من اتخاذ هذه القرارات، لن يفلح وزير طالما أننا نعامله القطعة بالقطعة، واليوم بيومه، وقرار بقرار، فهذا يعني أنه ومن معه لن ينشغلوا إلا بإطفاء الحرائق ومحاولة عدم الهبوط لدوري المظاليم، ونقتل قدراتهم... الوزير لا يكتسب مهاراته السياسية والإدارية إلا بعد عام علي أقل تقدير من توليه حقيبة الوزارة، ونحن نغير الوزير كل ثلاثة أشهر... من يحترم نفسه لا يمكن أن يقبل هذه المهانة... كنا قبل 25 يناير نغير الوزير كل عشر سنوات وأحياناً عشرين سنة، أما الآن فنغيره كل عشرة أشهر علي أكثر تقدير، لا هذا صحيح ولا ذلك صحيح.

إن معايير الاختيار وطريقة هذا الاختيار لازالت معضلة كبيرة، وهذا التعديل الوزاري الأخير يتم بنفس الطرق القديمة، ولذلك لن نحقق أية نتائج أفضل مما حققناه من قبل. وليس من الذكاء أن نتوقع نتائج مختلفة ونحن نصمم علي اتباع نفس طريقة الاختيار... فمازلنا نختار بمنطق السؤال عن عريس البنت سمعته إيه، مين يعرف وزير كويس، ومن يَسألون ومن يُسألون عادة ليس لديهم الخبرة بالمهام المنوطة بالوزارة المعنية، فتكون نتائج الاختيار غير مرضية. الذي أفهمه أنه يجب أن تكون هناك معايير للاختيار والتقييم مرتبطة بعناصر متعددة منها: 1) الخبرة السياسية للمرشح وقدرته علي التعامل السياسي، فنحن في حاجة لوزراء سياسيين. 2) الخبرة الفنية والكفاءة الفنية المرتبطة بحقيبة الوزارة المعنية، ومدي نجاحاته السابقة. 3) الكفاءة الإدارية، فليس كل من لديه الخبرة الفنية لديه قدرة إدارية علي قيادة وزارته واختيار معاونيه وتسيير الأمور في وزارته. 4) القدرة علي التواصل والتخاطب مع الرأي العام. 5) خبراته في التعامل مع مؤسسات الدولة وقدرته علي التفاعل معها وإحداث التغيير. 6) مدي تناغمه السياسي والفكري والثقافي مع أعضاء الحكومة الآخرين ومع القيادة السياسية. 7) النزاهة المالية وحسن السمعة.

كلها عناصر يجب أن يكون لها درجة عند التقييم، ويجب التوسع في دائرة الاختيار والتحضير المسبق... للأسف فات الميعاد وصار التعديل في المستقبل أكثر صعوبة وحساسية، ومازلنا نتبع سياسات ترقيع؛إدمج وزارة، وفك وزارة، وغيّر وزير، وغير اسم وزارة... وفي النهاية نتوقع نتائج مختلفة... مصر لن تقع ولن تترنح، ولكن لا شك أن هذه السياسات أيضاً لا تحقق الانطلاقة ولا التقدم. اللينك

استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الخميس، 17 مارس 2016

حكاية الجنيه والدولار

جريدة الاخبار - 17/3/2016
ربما تغيرت القناعة لدى القائمين علي البنك المركزي المصري، وبدأوا يقتنعون أن سياسات تثبيت سعر الدولار لن تحقق الغرض منها.


- حضرة  المواطن: ممكن حضرتك تفهمني إيه اللي بيحصل؟ وإيه هي حكاية الدولار والجنيه؟من حقي أفهم...

الأستاذ الجامعي: المسألة بسيطة، الدولار الأمريكي شأنه شأن أي سلعة يخضع لقوانين العرض والطلب، فإذا كان الطلب علي شراء السلعة أكثر من المعروض منها زاد سعرها، وإذا كان هناك سعران لسلعة هي أصلاً مش متاحة في السوق -سعر رسمي معلن وسعر آخر في السوق الموازية -لازم هيكون فيه سوق سوداء، وحيكون سعر السلعة في السوق السوداء أعلي بكثير من السوق الرسمي.

- حضرة المواطن: ممكن حضرتك تفهمني أكتر؟

الأستاذ الجامعي: المعادلة بسيطة؛ كلما توافر الدولار الأمريكي في السوق وأصبح متاحاً وزاد المعروض منه علي المطلوب ـ انخفض سعره وقوي الجنيه المصري أمامه، فإذا كانت هناك ندرة في توافر الدولار في السوق، وكان الطلب عليه أكثر من المعروض والمتاح منه حيزيد سعره زيه زي أي سلعة وتنتشر السوق السوداء.

- حضرة المواطن:معلش اعذرني، سؤال ساذج، وهو ليه أصلاً فيه ندرة في الدولار الأمريكي؟ وليه الطلب عليه أكثر من العرض؟

الأستاذ الجامعي: لأن مواردنا بالعملة الأجنبية قلّت جداً في السنوات الأخيرة، وبقينا بنستورد بالعملة الأجنبية وخاصة الدولار أكثر بكثير من الدولار المتاح عندنا وبأكثر بكثير من قدرتنا.

- حضرة المواطن: ممكن حضرتك توضح أكتر؟

الأستاذ الجامعي: حاضر... يعني ببساطة عندنا عجز في مواردنا بالدولار الأمريكي، اللي بندفعه أقل بكثير من اللي بيجيلنا،وعلشان كده فيه صناعات بتقفل لأنها مش لاقية عملة أجنبية في السوق المصري علشان تستورد مستلزماتها للإنتاج، وأحياناً بيبقي عندنا مشكلة في توفير الأدوية المستوردة... يعني عندنا مشاكل خطيرة.

- حضرة المواطن: طب وليه مواردنا من الدولار أقل من اللي بنصرفه؟

الأستاذ الجامعي: هو ده مربط الفرس؛ موارد الدولار معروفة أهمها السياحة، وللأسف منذ عام 2011 والسياحة بعافية، وتعطل معها عن العمل أكثر من خمسة ملايين مواطن يعملون بهذا القطاع.

المصدر الثاني للعملة الأجنبية كان تحويلات المصريين من الخارج لأهاليهم في مصر، وللأسف ده تأثر جداً بسبب القيود اللي وضعها البنك المركزي في العامين الأخيرين، فبدأ أهالينا يدفعون الدولار لشركات صرافة في دبي والسعودية والكويت، والشركات دي تسلم الأهالي في مصر الجنيه المصري اللي هم محتاجينه، يعني العملة الأجنبية مابقتش بتيجي مصر. وأما المورد الثالث فهو دخل قناة السويس، وده برضه تأثر نسبياً نتيجة انخفاض أسعار البترول وانخفاض معدلات التجارة العالمية. وأما المورد الرابع للعملة الأجنبية فهو عائد التصدير من البضائع والسلع للخارج، وللأسف الشديد أيضاً انخفضت عوائدنا من التصدير نتيجة انخفاض أسعار التجارة العالمية، وصعوبة إجراءات التصدير للخارج ومشكلات الجمارك، وتعثر الكثير من المصانع التي تعمل في أنشطة التصدير نتيجة عدم توافر بعض المواد الخام اللازمة لإنتاجها. وأما المورد الخامس فهو تدفقات الاستثمارات المباشرة الأجنبية من الخارج لإقامة مصانع وغيرها لخلق فرص عمل والمساهمة في التنمية.
- حضرة المواطن: يعني حضرتك عاوز تقول ببساطة وبلغة أفهمها؛ إن المشكلة في ضعف الموارد لمصر بالعملة الأجنبية، وإن الحل للمشكلة هو إن احنا نعمل علي تحسين السياحة ونزيل عقبات تحويلات المصريين من الخارج وإزالة معوقات الاستثمار وتشجيع أنشطة التصدير.

الأستاذ الجامعي: بالضبط.

- حضرة المواطن: بس الأمور دي مالهاش علاقة بالبنك المركزي، ومعني كده إن أي إجراء بيعمله البنك المركزي لن يحل المشكلة.

الأستاذ الجامعي: هي دي المشكلة بالضبط... إجراءات البنك المركزي أشبه بمسكنات للآلام الاقتصادية لكنها ليست علاجا للمرض ذاته، والمرض هو ضعف الأداء الاقتصادي، وقصور تدفقات الموارد الأجنبية لشرايين الاقتصاد. أما ارتفاع سعر الدولار وانخفاض قيمة الجنيه فهو العرض وليس المرض. لن تحل المشكلة إلا بزيادة قدرتنا التصديرية، وإنتاج السلع البديلة، وتشجيع الصناعات المحلية، وجذب الاستثمارات الأجنبية... بدون ذلك سيتطور المرض ويتحور إلي أن يؤدي إلي فشل وظائف الاقتصاد جميعها وتفاقم الأزمة الاجتماعية.

- حضرة المواطن: إذا كنت حضرتك صح... أنا مش قادر افهم ليه البنك المركزي خلال السنوات اللي فاتت كان بيثبت سعر الدولار أمام الجنيه رغم أن ضعف الجنيه كان أمراً حتمياً نتيجة ضعف الأداء الاقتصادي وسوء حالة الاستثمار؟

الأستاذ الجامعي: البنك المركزي له وظيفة أساسية، هي الحد من ارتفاع أسعار السلع والخدمات، أعني ارتفاع أسعار السلع زي السكر والزيت وخدمات النقل إلي آخره، وذلك من خلال آليات السياسات النقدية. لذلك كان البنك المركزي يلجأ إلي تثبيت سعر الدولار حتي يقلل من أثر التضخم لأننا نستورد كل شيء تقريباً، وفي تقديري أن البنك المركزي أنفق خلال السنوات القليلة الماضية ما لا يقل عن 14 مليار دولار لدعم الجنيه والحد من التضخم، وكان يراهن علي عامل الوقت وقدرة الحكومات المتعاقبة لرفع كفاءة الاقتصاد وزيادة عوائد الاستثمار... وللأسف لم تحدث النتائج المتوقعة، وكان لاستمرار زيادة تثبيت سعر الدولار والجنيه تكلفة باهظة. فمن ناحية أولي كما ذكرت أنفقنا 14 مليار دولار دون جدوي، ومن ناحية ثانية لم تفلح هذه السياسات في الحد من التضخم، بل زاد التضخم إلي ما لا يقل عن 14%، ومن ناحية ثالثة فإننا بشكل غير مباشر صرنا ندعم المستهلك الأمريكي والأوروبي، ومن ناحية رابعة استمرار سياسة تثبيت السعر كانت تعني دعم السلع المستوردة الترفيهية أو غير الأساسية وذلك علي حساب السلع والخدمات الأساسية، ومن ناحية خامسة فإن تثبيت السعر بشكل غير واقعي عطّل حركة الاستثمار والتدفقات النقدية من الخارج لأن الجميع يعلم أن تحرير سعر الصرف قادم لا محالة.

- حضرة المواطن: عاوز حضرتك تقوللي إن الحكومة والبنك المركزي ماكانوش عارفين المشاكل الناجمة عن تثبيت سعر الصرف؟

الأستاذ الجامعي: طبعاً كانوا عارفين وفاهمين كويس ومقدّرين، ولكن الخوف الأكبر كان إن التعويم أو تحريك السعر يؤدي إلي رفع الأسعار بشكل مبالغ فيه، وبالتالي تحدث آثار اجتماعية سلبية وحالة غليان في الشارع.

- حضرة المواطن: وإيه الجديد ما الوضع لم يتغيرحتي محافظ البنك المركزي منذ أسبوعين فقط قال إنه لن يحرك سعر الدولار، بل وضخ 500 مليون دولار منذ أسبوع لكي يدعم الجنيه ويمنع خفضه... إيه اللي خلي البنك المركزي يغير رأيه في يومين ثلاثة؟

الأستاذ الجامعي: سؤال محير!! ولكن عندك حق... أعتقد إنه... إنه... ربما تغيرت القناعة لدي القائمين علي البنكو وبدأوا يقتنعون أن سياسات تثبيت سعر الدولار لن تحقق الغرض منها، وأن الأفضل التعامل مع السياسات النقدية بمفهوم العرض والطلب وآليات السوق، فالسياسات السابقة لم تؤد إلي تحقيق الهدف منها، فالتضخم زاد، والتصدير تأثر سلبياً، والمصانع توقفت، والاستيراد تعطل، والاستثمار يُعاني، والسوق السوداء تضخمت، وسعر الدولار في السوق السوداء اقترب من عشرة جنيهات... فأعتقد أن القائمين علي إدارة شئون البنك المركزي أعادوا النظر في موقفهم.

- حضرة المواطن: وهل تعتقد حضرتك أن هذا القرار الأخير للبنك المركزي بخفض قيمة الجنيه أصبح 8.95 مقابل الدولار بدلاً من 7.80 هيحل مشاكلنا؟

الأستاذ الجامعي أعتقد أنها خطوة علي الطريق الصحيح...وهذا القرار سيساعد في جذب الاستثمار المباشر، ويعطي قدر أكبر من الثقة في السياسة النقدية، وسيدعم الصادرات المصرية، ويقلل من الفجوة في السوق السوداء، وسيشجع تحويل أموال المصريين من الخارج إلي مصر. طبعاً له بعض المخاطر أهمها الأسعار، ولذلك يجب أن تحرص الحكومة علي توفير السلع الأساسية ودعمها خلال الشهرين القادمين للسيطرة علي الأسعار. ولكن كما قلت لك في البداية، وأختم بها قولي هنا... كل هذه مسكنات فلو لم نحل مشاكل الاستثمار والمصانع ونحسن قدرتنا التصديرية ستظل المشكلة كما هي.

حضرة المواطن: ما زلت أشعر بأنه لا يزال هناك قدر من التخبط، ومع ذلك ربنا يوفق الحكومة والبنك المركزي لمصلحة الوطن. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الخميس، 10 مارس 2016

ماذا حدث للأمريكيين؟

جريدة الاخبار - 10/3/2016

وقد وجد الكثير من المواطنين الأمريكيين من أصحاب التيار السلطوي ضالتهم في "دونالد ترامب"، فبدأوا يتجمعون حوله.

لا شك أن نجاحات "دونالد ترامب" رجل الأعمال الأمريكي في الانتخابات التمهيدية للجمهوريين فاجأت الكثيرين داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، فكان مجرد اقتراح اسمه منذ شهور قليلة مضت يثير السخرية. وخلال آخر زيارة لي إلي الولايات المتحدة الأمريكية منذ خمسة شهور تقريباً؛ حينما كنت أسأل بعض السياسيين الأمريكيين أو رجال الأعمال منهم عن توقعاتهم لـ"ترامب" كانوا يجيبون: "إن الموضوع برمته سخيف"، "من هذا الذي سيعطي صوته لترامب"!!

الآن -وحتي كتابة هذه السطور -حصل "دونالد ترامب" علي (428) صوتاً من أصوات الاقتراع، في حين أن أقرب منافسيه "تيد كروز" قد حصل علي (315) صوتاً، ويحتاج "دونالد ترامب" (1237) صوتاً للفوز بترشيح الجمهوريين في الانتخابات الأمريكية. وقد حقق ترامب يوم الثلاثاء الماضي فوزاً كبيراً في ولايتي "ميتشجان" و"ميسيسبي"، وإذا فاز في "فلوريدا" و"نيويورك" فإنه قد يحسم ترشحه قريباً. والمعضلة لا تكمن في صعود "دونالد ترامب"، بل في أن أفكاره المتطرفة بدأت تلقي قبولاً عند قطاع كبير من الأمريكيين وبخلفيات متنوعة ومناطق جغرافية كثيرة لم تكن في مناطق نفوذ الجمهوريين.

ورغم أن المحللين يرون أن ترامب "المرشح للرئاسة" سيكون مختلفاً عن ترامب "الرئيس" حال انتخابه، وأن الكثير من الألفاظ الحادة والأفكار المتطرفة ستتلاشي مع "دونالد ترامب-الرئيس"، وأن بعض هذه الدلالات ظهرت في خطابه يوم الثلاثاء الماضي أمام مؤيديه بعد فوزه في ولاية ميتشجان، حيث تجنب استخدام ألفاظ جارحة في وصف معارضيه -علي عكس ما سبق، وكان خطابه أكثر اتزاناً، وبدأ فيه يقترب من مظاهر "رجل الدولة". رغم هذه التوقعات؛ فلا شك -كما يري المحللون -أنه سواء فاز ترامب أم لم يفز في الانتخابات الأمريكية؛ فإن هناك تياراً جديداً في السياسة الأمريكية قد بدأ في الصعود، وأن هناك تغييراً جذرياً وعميقاً بدأ يسود لدي قطاع كبير من الشعب الأمريكي سيكون له تأثير أكبر علي السياسات الأمريكية في الداخل والخارج. هذا التيار أطلق عليه بعض المحللين الأمريكيين في العلوم الاجتماعية والسياسية "التيار السلطوي" Authoritarianism، وأن آثار هذا التيار ستذهب إلي مدي أبعد كثيراً من دونالد ترامب، وإلي ما بعد عام 2016.

هناك قطاع كبير لدي الشعب الأمريكي بدأ ينمو في توجهاته نحو "التيار السلطوي"، ومعناه التوجه والميل عند الإحساس بالخطر لاختيار قائد قوي يتعهد باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات ضرورية لحمايتهم من هذا الخطر ومن الغرباء، ويكون قادراً علي منع التغير الذي يخافونه. وقد نجح "دونالد ترامب" -بخطابه القوي والعنصري أحياناً -في جمع هذا التيار من حوله من جميع أنحاء الولايات المتحدة، وقطاعات كبيرة متنوعة لدي المجتمع الأمريكي. وهذا القطاع الذي تحول إلي "حركة" Movement-علي حد تعبير "ترامب" نفسه في خطابه الأخير أمام مؤيديه في ولاية ميتشجان-لا يري مانعاً من اتخاذ أية إجراءات مهما بلغت شدتها من قبل قائدهم لحمايتهم، حتي ولو تعارضت هذه الإجراءات مع القيم الديمقراطية الراسخة داخل المجتمع الأمريكي، وحتي مهما بلغت هذه الإجراءات واتسمت بالعنصرية أو بالطابع السلطوي. ويري بعض الباحثين الأمريكيين في العلوم السياسية وآخرهم "آماندا توب" والتي نشرتها منذ أسبوع تقريباً، بأن "دونالد ترامب" هو أول "ترامب" في السياسة الأمريكية، ولن يكون الأخير، فستشهد الولايات المتحدة سياسياً العديد من أمثال "ترامب" خلال الأعوام القليلة القادمة، وستكون لهم القيادة في رسم سياسات الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي دراسة قامت بها مؤسسة "ڤوكس" VOX مع إحدي مؤسسات قياس الرأي في واشنطن نشرتها في مارس من هذا العام، أثبتت الدراسة أن الأمر قد تجاوز "ترامب"، وأن هناك تيارا قويا اجتماعيا وسياسيا ينمو داخل الولايات المتحدة الأمريكية يتجه نحو تحويل الحزب الجمهوري والسياسات الوطنية إلي ما هو أبعد من الانتخابات الرئاسية التي ستجري في 2016، هذا التيار هو "التيار السلطوي".

هذا المزاج السلطوي بدأ يتكون خلال العشرة أعوام الماضية، ويتفق تاريخياً مع المناخ الذي أدي إلي بزوغ "هتلر" وغيره من الدكتاتوريين. فهذا المزاج السلطوي لدي "المواطن" الأمريكي بدأ ينمو مع بدايات الألفية الثانية، وهجوم القاعدة في قلب الولايات المتحدة الأمريكية.

هذا التغير السيكولوجي والنفسي للمواطن الأمريكي بدأ ينمو ويصعد علي مدار الأعوام الماضية، وكان دافعه الخوف من الأعمال الإرهابية، والخوف من الانهيار الاقتصادي، والخوف من الإسلام، والخوف من إيران، والخوف من المهاجرين غير الشرعيين، هذا التغير والخوف جعل شريحة من الأمريكيين تنمو يوماً بعد يوم، وتتجه نحو تأييد نوع جديد من السياسيين، سياسيين لم يعرفوهم من قبل، سياسيين كـ"دونالد ترامب" يتحدثون لغة مختلفة، يعدونهم بشكل لا يقبل الشك بأنهم معهم في مواجهة خوفهم وفي محاربة ومواجهة الأخطار التي يواجهونها، وأنهم قادرون علي ذلك، وأنهم سيستخدمون آليات غير معهودة بما في ذلك القوة لمواجهة هذه المخاطر.

وقد وجد الكثير من المواطنين الأمريكيين من أصحاب التيار السلطوي ضالتهم في "دونالد ترامب"، فبدأوا يتجمعون حوله، وسيشكلون لا محالة حركة جديدة في السياسة الأمريكية، وقد يتحول الحزب الجمهوري الأمريكي للوعاء الجديد لهذه الحركة.
وفي دراسة إحصائية صادمة قام بها فريق من الباحثين الأمريكيين وأساتذة العلوم السياسية وفقاً لما نشرته الباحثة "آماندا توب" في 1 مارس من هذا العام، فإن 44% من البيض الأمريكيين ينتمون إلي هذا الاتجاه الجديد، وأن 55% من الجمهوريين ينتمون إلي هذا الاتجاه، في حين أن 75% من الديمقراطيين ينتمون إلي الاتجاه المعاكس.
ومن المفيد أن نتعرف أكثر علي ما يخاف منه الأمريكيون، وما هي المخاوف والمخاطر التي جعلت كثيرا من الأمريكيين يتحولون نفسياً وذهنياً إلي مؤيدين لسياسيين وتيارات سياسية تميل إلي العنصرية والخروج علي المألوف في القيم السياسية والاجتماعية الأمريكية، وكانت المخاطر الثلاث الأعلي لديهم هي الخوف من المنظمات الإرهابية مثل داعش، يليها الخوف من إيران، ثم يأتي في المرتبة الثالثة وبمساحة كبيرة الخوف من الخطر الروسي، ويأتي بعد ذلك مخاطر المخدرات وتجارة الأسلحة والأمراض المعدية والهجرة غير الشرعية.

ويري الباحثون الأمريكيون أن تنامي هذا التيار سيكون له انعكاسات اجتماعية وسياسية خطيرة، وتغيير في المستقبل علي الوضع الأمريكي في الداخل والخارج.

وعلي سبيل المثال، فإن 56% من أنصار هذا الاتجاه المتنامي في الولايات المتحدة يرون أن بناء المساجد داخل الولايات المتحدة أمر يضر بالمجتمع الأمريكي، ويجب منع بناء المساجد. والدراسات الاجتماعية التي أعدت في هذا الخصوص تري أن الأمر لا يقتصر فقط علي ظاهرة "الإسلامفوبيا"، بل يعتبر هؤلاء المسلمون بمن فيهم المسلمون الأمريكيون من "الغرباء" Outriders.

وقد انتهت الدراسات الأمريكية إلي أن أصحاب التيار السلطوي بشكل عام ومؤيدي دونالد ترامب بشكل خاص يدعمون سياسات خمسا رئيسية؛ الأولي هي إعطاء الأولوية لاستخدام القوة العسكرية علي حساب الدبلوماسية ضد الدول التي تمثل خطراً علي الولايات المتحدة الأمريكية، فلا شك أن تنامي هذا الاتجاه السياسي وتبوأه السلطة في الولايات المتحدة قد يعيد إلينا سياسات جورج بوش الابن المدمرة. وأما السياسة الثانية التي تحظي بتأييد ودعم هؤلاء؛ فهي ضرورة تعديل الدستور الأمريكي لحظر منح الجنسية لأبناء المهاجرين غير الشرعيين. وأما السياسة الثالثة التي يؤيدونها؛ فهي فرض مزيد من القيود وإجراءات التفتيش علي القادمين من الشرق الأوسط، فهؤلاء جميعاً يحملون "جينات الإرهاب" وفقاً لهذا الاتجاه السياسي الجديد. وأما الأمر الرابع الذي يعطونه الأولوية؛ فهو أن يفرض علي جميع المواطنين حمل "بطاقة قومية" ID طوال الوقت لمواجهة الإرهاب، وحق البوليس في القبض علي من لا يحمل هذه البطاقة. وخامسا وأخيراً، السماح للحكومة الفيدرالية بالتجسس علي كافة المكالمات التليفونية لمواجهة الإرهاب.

والقاسم المشترك بين هذه السياسات يكمن في أنها تعكس الخوف من المخاطر الجسدية والاجتماعية، والأهم أنها تعكس الرغبة في اتخاذ إجراءات حكومية وسياسات أكثر حسماً حتي وقوة، ولا تخلو من النزعة العنصرية.

رأيي... أن مضمون وفحوي سياسات "دونالد ترامب" لا يختلف في جوهره عن السياسات المعلنة من باقي المرشحين الجمهوريين، ولكن الفارق يكمن في الطريقة والشكل وليس الجوهر. بطريقته في التبسيط، وحسم الأمور بشكل واضح، وإعطاء الانطباع علي قدرته في حل كل المشكلات، وإظهار القوة في التعاطي مع المخاطر والغرباء وأعداء أمريكا، ووقاحته عند التعليق علي الأقليات المسلمة أو المنحدرين من أصول مكسيكية، فهذه الأقليات صارت تمثل خطراً حقيقياً عند هذا التيار السلطوي وقطاع كبير من البيض الأمريكيين... ببساطة نجح دونالد ترامب في استغلال الخوف عند المواطن الأمريكي، وبدأ يمثل رقماً صحيحاً في السياسة الأمريكية.

حتي ولو لم ينجح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، فإنه صار يمثل تياراً سياسياً وفكرياً متنامياً داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فالخوف من الإرهاب وفوبيا الإسلام لن تذهب بعيداً.

ومن ناحية أخري، فإن وصول "بيرنيساندرز" للمركز الثاني، ومنافسته الشرسة لـ"هيلاري كلينتون" حتي الآن أمر له دلالته، فتوجهه اليساري نسبياً أمر غريب علي السياسة الأمريكية علي عكس أوربا. وغالبية داعميه من الشباب أمر له دلالة قوية أيضاً، وربما يكون لأفكاره وأفكار داعميه تأثير أبعد مدي علي السياسة الأمريكية، فيبدو أن الفجوة الثقافية والفكرية والسياسية بين قطاعات الناخبين في الولايات المتحدة بدأت تتسع نسبياً، ولهذا الموضوع حديث آخر. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الأحد، 6 مارس 2016

مصر لا تملك خطة استثمارية حتى الان

جريدة الوطن - 4/3/2016

فى حوار كاشف مع جريدة الوطن للوضع الاقتصادي الذى تمر به البلاد، كان يجب وضع الحقائق أمام القاريء، لأن الاعتراف بالمشاكل بداية الطريق لحلول واقعية، فالمواطن قادر على تجاوز كل التحديات إذا ما جعلناه شريكاً لنا، ولأن قناة السويس تساوى الأمل بالنسبة للمصريين فقد أستحوذ الحوار على عدد كبير من الأسئلة حول دور محور قناة السويس في التنمية والمشروعات العملاقة التي من المنتظر أن تقام فيه، والحقيقة أن المشروعات المتوقعة سوف تغير وجه الاقتصاد خاصة وأن التسهيلات المقدمة للمستثمرين كثيرة ومغرية، ولأنني أفضل المصارحة فأن كل ما يخص أداء الحكومة الحالية ووزارة الاستثمار كان محل استفسارات كثيرة فى الحوار، والإجابة كانت واضحة إذ يبدو أداء الحكومة ضعيفاً في مواجهة التحديات والمشاكل يتمثل هذا الضعف فى التواصل والتنسيق بين السياسيات العامة.


سُئلت عن علاقتى الحالية والسابقة بمشروع محور تنمية قناة السويس، وأيضا عن وجهة نظري في محددات الإصلاح ونظرتي المتوقعة له ... الإجابات يحملها تفاصيل الحوار في هذا اللينك

الخميس، 3 مارس 2016

ازدراء القــانون

جريدة الاخبار - 3/3/2016

محاربة ازدراء القانون، وإعلاء كلمة القانون البداية الضرورية لتحقيق أحلام النهضة... أما عدا ذلك فهو حرث في البحر.


تساءل الصديق الدكتور مصطفي حجازي في مقال منشور له بجريدة «المصري اليوم» في 22 فبراير الماضي: «هل تريد مصر... أن تكون دولة؟!!»، وحتي لا يُفهَم خطأ أو يتعرض لمفرمة التخوين؛ أقسم د.حجازي أن سؤاله هذا سؤال استفهام، حتي وإن بدا فيه استنكار وتعجب. بل وأقسم بالله في مقاله أنه لا يقصد الاستهزاء بل هو سؤال يحتاج إلي إجابة.

وأقول له وإلي كل من يشغله بناء هذا الوطن وتقدمه: إن الخطوة الأولي في البناء نحو دولة قوية راسخة قادرة علي الانطلاق وتحقيق نهضة حقيقية في أقل من عشر سنوات في شتي المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ هو إرساء دولة القانون... فالقاسم المشترك بين كل الدول التي حققت نهضة حقيقية كان احترام القوانين الوضعية المطبقة داخل البلاد، ولا فارق بين حاكم ومحكوم، غني أو فقير، عالم أو جاهل، كبير أو صغير، جهة حكومية أو فرد. هناك دول نجحت ولم تكن تتبع النهج الديمقراطي المعاصر - كما حدث في سنغافورة، وهناك دول لم تنجح رغم أنها انتهجت النهج الديمقراطي نسبياً - كما حدث في الأرجنتين، وهناك دول نجحت في تحقيق النهضة رغم أنها لم تكن تنتهج اقتصاديات السوق الحر بنسبة - 100- كما حدث في الصين والهند. ولكن العنصر الجامع والمشترك بين كل الدول التي حققت طفرات اقتصادية واجتماعية وثقافية كان احترام القوانين وتطبيقها بحذافيرها علي الجميع. فهذا المعيار هو الأساس في التفرقة بين المجتمعات المتحضرة، وتلك التي لاتزال تعيش بفكر العصور الوسطي ومجتمعات التخلف.


واحترام القانون وإرساء المساواة بين المواطنين أمام القانون هو الركيزة الأولي نحو النظام الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان. حتي التاريخ الحديث لمصر يشهد علي صحة ما أقول؛ فالنهضة الثقافية والحضارية لمصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بدأت بنهضة تشريعية وباحترام النظم القانونية وتطويرها، فالنهضة التشريعية وإرساء النظم القانونية واحترامها بدأت بشكل جدّي مع صدور القوانين الأهلية عام 1883 وانتهت بدستور 1923، وإرساء نظم قانونية كانت تطبق علي الكافة. وبدأت نهضة مصر الثقافية وظهور القوة الناعمة وتطور الأداء الاقتصادي في أعقاب الحرب العالمية الأولي في 1918، وتابعه تطور النظام السياسي النيابي. 

فالنهضة الثقافية والاقتصادية لا يمكن لهما أن يتحققا إلا في ظل دولة القانون، وحينما بدأنا في الافتئات علي القانون وتجاوزه والاعتداء علي القوانين من قبل الدولة تحت مسميات القضاء علي الرجعية والنظم البائدة، ونجاحه في نهاية الخمسينيات؛ بدأ التدهور والوهن السياسي والثقافي والاقتصادي يدب في جسد الدولة المصرية، وانتهي بحرب 67، ولم نخرج حتي الآن لدائرة النهضة التي تستحقها مصر لأننا فشلنا حتي هذه اللحظة في إرساء دولة القانون.

إن الإمام محمد عبده، وطه حسين، وسيد درويش، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وسعد زغلول، وطلعت باشا حرب، وعبود باشا، ومحمد حسين هيكل باشا، ونجيب الريحاني، وليلي مراد، وتوفيق الحكيم، وعبد القادر المازني، وروز اليوسف، والتابعي، ومصطفي أمين، ومحمد حسنين هيكل... كل هؤلاء وغيرهم بالمئات كانوا نتاج وأبناء عصر النهضة المصرية الحديثة الذي بدأ نهاية القرن التاسع عشر وانتهي في العقد السادس من القرن العشرين، حتي وإن أمدّ الله في أعمار بعضهم إلي عصرنا هذا. إن النهضة الحضارية هي الابن الشرعي لدولة القانون، أما التخلف والهوان والضعف فهم الأبناء الشرعيون لدولة ازدراء القانون.

لماذا دولة القانون شرط لا غني عنه لتحقق التنمية والنهضة، وهو ما أثبتته كل التجارب الإنسانية وتاريخنا المصري المعاصر؟ لأنه في دولة القانون وحدها دون غيرها يظهر الإبداع الفكري في شتي المجالات.

في دولة القانون وحدها دون غيرها ترتبط السلطة بالمساءلة... في ظل دولة القانون يكون هناك تكافؤ للفرص، ويكون الجميع أمام القانون متساوين، وتظهر المنافسة، وينحسر الفساد... في دولة القانون وحدها يتحقق الإحساس بالعدل، والأمل في غد مشرق... وفي دولة القانون فقط لا تهدر الأموال العامة دون حساب، ويكون الإنفاق العام محسوباً له ألف حساب، وتتحدد الأولويات بشفافية... في دولة القانون فقط لا تهدر الساعات والأيام والشهور والسنون في غياهب البيروقراطية... في دولة القانون لا توجد سوق سوداء، ولا سوق موازية، ولا سوق غير رسمية، ولا تهريب جمركي، ولا تهرب ضريبي.

إن النهضة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أشبه بنهر جارف يحمل معه كل الخير، ضفتاه النظام التشريعي من ناحية اليمين والنظام الدستوري من ناحية اليسار، فإذا انهارت إحدي الضفتين وتسربت مياه النهر يميناً ويساراً تحول النهر إلي مستنقعات صغيرة تجلب معها كل أنواع الحشرات الضارة وأمراض المجتمع المستعصية. وهذا ما نعيش فيه الآن؛ ففي ظل غياب دولة القانون وانتشار الفوضي التشريعية، وانحسار العدالة الناجزة للقضاء، وتآكل الثوابت الدستورية، انتشرت المستنقعات الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية... فلا أمل في دولة متحضرة متقدمة لا تنفذ فيها الأحكام القضائية، ولا تحترم قوانين البناء، ولا يوجد بها التزام لقوانين المرور، والدولة وأجهزتها الحكومية أول من يخالف القوانين... لا أمل في دولة ولا في استقرار يعتدي علي حرمة مواطنيها الخاصة نهاراً جهاراً دون محاسبة ودون مساءلة ودون استغراب حتي!! لا أمل في دولة يمارس فيها كل أنواع القذف والسب وهتك الأعراض دون أن تحرك ساكناً...

إن بعض مظاهر السمات السلبية للشخصية المصرية كما حللها الدكتور/ أحمد عكاشة في كتابه «تشريح الشخصية المصرية» مثل صفات الاعتماد علي الآخرين، والسلبية، وعدوانية السلوك، وسلوك رد الفعل، والتمركز حول الذات، وعدم المثابرة، والتصور الخاطئ للدين، والانغماس في القرارات الانفعالية، وظهور الشخصيات المستهينة بالمجتمع... كلها في رأيي نتاج ضعف وغياب دولة القانون.

محاربة ازدراء القانون، وإعلاء كلمة القانون؛ البداية الضرورية لتحقيق أحلام النهضة... أما عدا ذلك فهو حرث في البحر. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك