الخميس، 3 مارس 2016

ازدراء القــانون

جريدة الاخبار - 3/3/2016

محاربة ازدراء القانون، وإعلاء كلمة القانون البداية الضرورية لتحقيق أحلام النهضة... أما عدا ذلك فهو حرث في البحر.


تساءل الصديق الدكتور مصطفي حجازي في مقال منشور له بجريدة «المصري اليوم» في 22 فبراير الماضي: «هل تريد مصر... أن تكون دولة؟!!»، وحتي لا يُفهَم خطأ أو يتعرض لمفرمة التخوين؛ أقسم د.حجازي أن سؤاله هذا سؤال استفهام، حتي وإن بدا فيه استنكار وتعجب. بل وأقسم بالله في مقاله أنه لا يقصد الاستهزاء بل هو سؤال يحتاج إلي إجابة.

وأقول له وإلي كل من يشغله بناء هذا الوطن وتقدمه: إن الخطوة الأولي في البناء نحو دولة قوية راسخة قادرة علي الانطلاق وتحقيق نهضة حقيقية في أقل من عشر سنوات في شتي المجالات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ هو إرساء دولة القانون... فالقاسم المشترك بين كل الدول التي حققت نهضة حقيقية كان احترام القوانين الوضعية المطبقة داخل البلاد، ولا فارق بين حاكم ومحكوم، غني أو فقير، عالم أو جاهل، كبير أو صغير، جهة حكومية أو فرد. هناك دول نجحت ولم تكن تتبع النهج الديمقراطي المعاصر - كما حدث في سنغافورة، وهناك دول لم تنجح رغم أنها انتهجت النهج الديمقراطي نسبياً - كما حدث في الأرجنتين، وهناك دول نجحت في تحقيق النهضة رغم أنها لم تكن تنتهج اقتصاديات السوق الحر بنسبة - 100- كما حدث في الصين والهند. ولكن العنصر الجامع والمشترك بين كل الدول التي حققت طفرات اقتصادية واجتماعية وثقافية كان احترام القوانين وتطبيقها بحذافيرها علي الجميع. فهذا المعيار هو الأساس في التفرقة بين المجتمعات المتحضرة، وتلك التي لاتزال تعيش بفكر العصور الوسطي ومجتمعات التخلف.


واحترام القانون وإرساء المساواة بين المواطنين أمام القانون هو الركيزة الأولي نحو النظام الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان. حتي التاريخ الحديث لمصر يشهد علي صحة ما أقول؛ فالنهضة الثقافية والحضارية لمصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بدأت بنهضة تشريعية وباحترام النظم القانونية وتطويرها، فالنهضة التشريعية وإرساء النظم القانونية واحترامها بدأت بشكل جدّي مع صدور القوانين الأهلية عام 1883 وانتهت بدستور 1923، وإرساء نظم قانونية كانت تطبق علي الكافة. وبدأت نهضة مصر الثقافية وظهور القوة الناعمة وتطور الأداء الاقتصادي في أعقاب الحرب العالمية الأولي في 1918، وتابعه تطور النظام السياسي النيابي. 

فالنهضة الثقافية والاقتصادية لا يمكن لهما أن يتحققا إلا في ظل دولة القانون، وحينما بدأنا في الافتئات علي القانون وتجاوزه والاعتداء علي القوانين من قبل الدولة تحت مسميات القضاء علي الرجعية والنظم البائدة، ونجاحه في نهاية الخمسينيات؛ بدأ التدهور والوهن السياسي والثقافي والاقتصادي يدب في جسد الدولة المصرية، وانتهي بحرب 67، ولم نخرج حتي الآن لدائرة النهضة التي تستحقها مصر لأننا فشلنا حتي هذه اللحظة في إرساء دولة القانون.

إن الإمام محمد عبده، وطه حسين، وسيد درويش، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وسعد زغلول، وطلعت باشا حرب، وعبود باشا، ومحمد حسين هيكل باشا، ونجيب الريحاني، وليلي مراد، وتوفيق الحكيم، وعبد القادر المازني، وروز اليوسف، والتابعي، ومصطفي أمين، ومحمد حسنين هيكل... كل هؤلاء وغيرهم بالمئات كانوا نتاج وأبناء عصر النهضة المصرية الحديثة الذي بدأ نهاية القرن التاسع عشر وانتهي في العقد السادس من القرن العشرين، حتي وإن أمدّ الله في أعمار بعضهم إلي عصرنا هذا. إن النهضة الحضارية هي الابن الشرعي لدولة القانون، أما التخلف والهوان والضعف فهم الأبناء الشرعيون لدولة ازدراء القانون.

لماذا دولة القانون شرط لا غني عنه لتحقق التنمية والنهضة، وهو ما أثبتته كل التجارب الإنسانية وتاريخنا المصري المعاصر؟ لأنه في دولة القانون وحدها دون غيرها يظهر الإبداع الفكري في شتي المجالات.

في دولة القانون وحدها دون غيرها ترتبط السلطة بالمساءلة... في ظل دولة القانون يكون هناك تكافؤ للفرص، ويكون الجميع أمام القانون متساوين، وتظهر المنافسة، وينحسر الفساد... في دولة القانون وحدها يتحقق الإحساس بالعدل، والأمل في غد مشرق... وفي دولة القانون فقط لا تهدر الأموال العامة دون حساب، ويكون الإنفاق العام محسوباً له ألف حساب، وتتحدد الأولويات بشفافية... في دولة القانون فقط لا تهدر الساعات والأيام والشهور والسنون في غياهب البيروقراطية... في دولة القانون لا توجد سوق سوداء، ولا سوق موازية، ولا سوق غير رسمية، ولا تهريب جمركي، ولا تهرب ضريبي.

إن النهضة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أشبه بنهر جارف يحمل معه كل الخير، ضفتاه النظام التشريعي من ناحية اليمين والنظام الدستوري من ناحية اليسار، فإذا انهارت إحدي الضفتين وتسربت مياه النهر يميناً ويساراً تحول النهر إلي مستنقعات صغيرة تجلب معها كل أنواع الحشرات الضارة وأمراض المجتمع المستعصية. وهذا ما نعيش فيه الآن؛ ففي ظل غياب دولة القانون وانتشار الفوضي التشريعية، وانحسار العدالة الناجزة للقضاء، وتآكل الثوابت الدستورية، انتشرت المستنقعات الفكرية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية... فلا أمل في دولة متحضرة متقدمة لا تنفذ فيها الأحكام القضائية، ولا تحترم قوانين البناء، ولا يوجد بها التزام لقوانين المرور، والدولة وأجهزتها الحكومية أول من يخالف القوانين... لا أمل في دولة ولا في استقرار يعتدي علي حرمة مواطنيها الخاصة نهاراً جهاراً دون محاسبة ودون مساءلة ودون استغراب حتي!! لا أمل في دولة يمارس فيها كل أنواع القذف والسب وهتك الأعراض دون أن تحرك ساكناً...

إن بعض مظاهر السمات السلبية للشخصية المصرية كما حللها الدكتور/ أحمد عكاشة في كتابه «تشريح الشخصية المصرية» مثل صفات الاعتماد علي الآخرين، والسلبية، وعدوانية السلوك، وسلوك رد الفعل، والتمركز حول الذات، وعدم المثابرة، والتصور الخاطئ للدين، والانغماس في القرارات الانفعالية، وظهور الشخصيات المستهينة بالمجتمع... كلها في رأيي نتاج ضعف وغياب دولة القانون.

محاربة ازدراء القانون، وإعلاء كلمة القانون؛ البداية الضرورية لتحقيق أحلام النهضة... أما عدا ذلك فهو حرث في البحر. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق