الخميس، 30 يوليو 2015

نيوتن المصري واختصار الوزارات

جريدة الاخبار - 30/7/2015

ولا يفوتني أن أتوجه إلي الأحزاب السياسية القليلة الجادة لكي تفيق من غفلتها، وأن تبدأ في التركيز علي التعامل مع القواعد وتعميق دورها في المجتمع.


تساءل نيوتن في مقاله اليومي في مطلع هذا الأسبوع بجريدة «المصري اليوم» عن إمكانية اختصار عدد الوزارات. وقد سبق أن عرضت لهذه المسألة في مقالات سابقة، وأؤكد ما سبق أن ذكرته من ضرورة تقليص عدد الوزارات بحيث يكون لدينا حكومة مصغرة من حيث العدد كبيرة من حيث الكفاءة والإنتاج. واختصار عدد الوزارات هو خطوة أولي وضرورية نحو إصلاح الجهاز الحكومي. فهيكل مجلس الوزراء الحالي يعاني من نواقص ثلاث شخصها الراحل د/ إبراهيم شحاته نائب رئيس البنك الدولي في كتابه الرائع «وصيتي لبلادي» منذ أكثر من خمسة عشر عاماً. وهذه النواقص التي لا تزال قائمة تتمثل في الاّتي: 1) غياب التنسيق الأفقي بين الوزارات المتعددة، فصارت جزراً منعزلة. 2) غياب التنسيق الرأسي بين مجلس الوزراء ككل والأجهزة التنفيذية المعنية بالتطبيق فانعدمت المتابعة، وصارت السياسات والقرارات حبراً علي ورق. 3) ضعف الجهاز الفني التنفيذي لمجلس الوزراء المعني بإعداد الدراسات الفنية وتقييم ما يقدم للمجلس، وإعداد الرؤية والاستراتيجيات الخاصة بالحكومة ككل، فغابت بوصلة الإصلاح.

وأضيف لما سبق بأن هذه النواقص يصاحبها تعارض في توجهات الهيئات التابعة لهذه الوزارات. كما أن زيادة عدد الوزارات وضعف الهياكل التمويلية والإدارية لعدد من الوزارات المستحدثة أنهك الجهاز الحكومي وزاد من القصور في الأداء الحكومي، وضاعف الإنفاق الحكومي غير الرشيد.

ولا شك أن زيادة عدد الوزارات بشكل غير منطقي وتعارض اختصاصاتها وأهدافها ومناطق نفوذها مع تعدد الهيئات التابعة لها يجعل من رفع كفاءة الأداء الحكومي مهمة شبه مستحيلة، حيث يبلغ عدد الوزارات حالياً (39) وزارة. وهو ما يجعل حتي مناقشة أجندة المجلس واتخاذ قرارات سريعة مسألة صعبة للغاية. ولذلك أضم صوتي إلي صوت نيوتن، وذلك من خلال أمور أربعة ويجب القيام بها:

أولها: تخفيض عدد الوزارات الحالية من 39 وزارة إلي ما لا يزيد علي (22) وزارة مع الاحتفاظ بهذا الهيكل للمدة الباقية من فترة ولاية الرئيس السيسي الأولي لضمان الاستقرار الحكومي. وثانيها: تقسيم المجموعة الوزارية إلي مجموعات أربع، يكون لكل منها مقرر من الوزراء مسئول عن التنسيق بين أعضائها. وثالثها: رفع كفاءة المكتب الفني للمجلس وإعادة هيكلة وتطوير دور مركز دعم القرار التابع لمجلس الوزراء. وأخيراً: إعادة دور وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء والمتابعة، لضمان التنسيق الأفقي والرأسي لأعضاء الحكومة.

فالإصلاح المؤسسي وتطوير الجهاز الحكومي يبدأ من هيئة مكتب الوزراء. ولي تصور مبدئي بشأن اختصار عدد الوزارات، رداً علي تساؤل نيوتن، يمكن إجماله فيما يلي:
(1) دمج وزارتي الدفاع والإنتاج الحربي. (2) دمج وزراتي الإسكان والنقل، مع فصل قطاع النقل البحري نظراً لأهمية هذا القطاع علي مستقبل التجارة والصناعة في مصر. (3) دمج وزارتي التعليم العالي والبحث العلمي، وهذا ليس تقليلا من شأن أهمية البحث العلمي، فهذا الملف وما يتعلق بنقل التكنولوجيا من الأمور الحيوية للنهضة. (4) دمج وزارتي التعليم الأساسي والفني. (5) دمج وزارات الصحة والسكان والبيئة، فالمحافظة علي البيئة جزء لا يتجزأ من الصحة الوقائية. (6) ضم وزارتي السياحة والطيران، وأضم هنا صوتي للكاتب الكبير سليمان جودة. (7) ضم وزارتي الثقافة والآثار. (8) دمج وزارتي العمل والتأمينات الاجتماعية. (9) دمج وزراتي التخطيط والتعاون الدولي. (10) دمج وزارتي الاتصالات والتنمية الإدارية إذا كنا جادين في تفعيل الحكومة الإلكترونية. (11) دمج وزارتي التنمية المحلية والتطوير الحضاري والعشوائيات فكلها مهام مرتبطة ببعضها البعض. (12) دمج وزارتي الري والزراعة. (13) دمج وزارتي البترول والكهرباء باعتبار قضايا الطاقة لا تنقسم عن بعضها. مع ضرورة تفعيل جهاز تنظيم وحماية المستهلك بخصوص قطاع البترول.

 وهناك حاجة -في رأيي- لاستحداث وزارة للنقل البحري لتعظيم قدرتنا اللوجستية وتطوير الموانئ البحرية، وأساطيل النقل التجاري البحري. كما أنه يجب إنشاء وزارة جديدة تنسلخ من وزارة المالية تكون مسئولة عن الموارد السيادية بما في ذلك الضرائب والجمارك لتطوير هذه المنظومة التي أصبحت عبئاً علي الموازنة، وفي هذه الحالة يمكن دمج المالية والتخطيط والتعاون الدولي في وزارة واحدة.. هذا المقترح يستتبع تقسيم المجلس إلي أربع مجموعات عمل وزارية، أولها المجموعة الوزارية للاستثمار والتنمية الاقتصادية، وثانيها المجموعة الوزارية لشئون المرافق والخدمات العامة، وثالثها المجموعة الوزارية للعدالة الاجتماعية، ورابعها المجموعة الوزارية لشئون الأمن الوطني. ويكون لكل مجموعة مقرر أو نائب لرئيس الوزراء من وزراء المجموعة. وتكون كل مجموعة معنية بمهام وأهداف محددة تكون مسئولة عنها وتحاسب عليها بشكل تضامني.

وهناك خطوة أخري يجب أن تصاحب هذا التشكيل، وهو فك الاشتباك بشكل واضح وحاسم بين عدد من الوزارات، منها فك الاشتباك بين اختصاصات وزارة العدل ووزارة الشئون البرلمانية والقانونية، وهي الآن تحت مسمي وزارة العدالة الانتقالية، خاصة فيما يتعلق بوظيفة إعداد مشروعات القوانين. وهناك مؤسسات ربما يكون من الأفضل - في رأيي - خروجها من تحت عباءة وزارة العدل، مثل الشهر العقاري.

ويجب أن يتبع ذلك كله إعادة هيكلة المكتب الفني ومجلس مستشارين مجلس الوزراء، والأهم مركز دعم اتخاذ القرار لكي يعمل هؤلاء جميعاً باعتبارهم وحدة إعداد الرؤي الحكومية وإعداد الاستراتيجيات، ومتابعة التنفيذ، وتحديد الأولويات، وخطط العمل الحكومي وبالمناسبة هذه هي المهمة التي أنشئ من أجلها أصلاً مركز دعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء.

بعد ذلك يجب إعادة النظر في طريقة عمل دواوين الوزارة، وتفعيل الجهاز التنفيذي لكل وزارة من خلال وظيفة وكيل الوزارة الدائم، وضخ دماء شابة وصف ثانٍ وثالث حقيقي، فلم يعد مقبولاً إدارة دواوين الوزارة بعقلية اليوم بيومه، وفكر تسيير الأعمال.
هذا رأي يحتمل الخطأ والصواب، ولكنه ربما يكون جديرا بالدراسة والتمحيص من صانعي القرار السياسي.

المجتمع العميق:
أعجبتني كثيراً الدراسة التي أعدها د/ عمار علي حسن، بشأن نجاح الحركات الدينية المتشددة في التغلغل إلي أعماق المجتمع المصري من خلال النشاط التجاري وجمعيات الدعوة، والجمعيات الخيرية. هذا الاتجاه المتجذر في كل نجع وقرية، لا يمكن مواجهته للحفاظ علي وحدة الوطن ونسيجه والحفاظ علي الدولة إلا من خلال استراتيجية واضحة تعتمد علي أربعة أركان: الأول: حكومي من خلال تبني سياسات عدالة اجتماعية حقيقية موجهة للأكثر احتياجاً في قري ونجوع مصر، مع تفعيل سياسات حقيقية بشأن دعم المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر ويكون قياس تنفيذ هذه السياسات بشكل ربع سنوي. والثاني: من خلال تفعيل المسئولية الاجتماعية للقطاع الخاص مع وجود خريطة لتوجيه هذه المسئولية وتفعيلها للحفاظ علي الأمن والسلام الاجتماعي. والثالث: دعم منظمات المجتمع المدني بشكل مؤسسي لا عشوائي قطاعياً وجغرافياً وعمرياً، لدعم الرعاية الاجتماعية المباشرة للفئات الفقيرة. وأخيراً: تبني سياسة ثقافية واجتماعية بخطط خمسية واضحة، لمواجهة التطرف بكل أشكاله بما في ذلك التطرف الديني والتطرف الاجتماعي والتطرف الأخلاقي. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الخميس، 23 يوليو 2015

هل نحن جادون في مواجهة التطرف؟

جريدة الاخبار - 23/7/2015

إن إسناد معالجة التطرف الديني للمؤسسة الأمنية ومؤسسة الأزهر دون تطوير دور المؤسسات الثقافية والتعليم ومراكز الفكر ومؤسسات المجتمع المدني لن يحد من التطرف

التطرف والإرهاب ظاهرتان لا يجب التعامل معهما بذات المنطق وبذات الآلية. وإن كان التطرف مقدمة ضرورية للإرهاب. الإرهاب مواجهته أمنية في المقام الأول. أما التطرف فمواجهته تكون بشتي الطرق، وأقلها أهمية وتأثيراً هو المواجهة الأمنية.

الحد من التطرف يعني الحد من الإرهاب بالضرورة، والحد من التطرف يعني حماية أسس ومقومات الدولة الاجتماعية والثقافية والسياسية والدينية، كما أن الحد من التطرف يعني تطور المجتمع وتقدمه وليس مجرد المحافظة علي الدولة.

مشكلتنا في مصر كما أظهرت إحدي أوراق العمل التي شارك في إعدادها د/ يوسف ورداني ود. إيمان رجب بشأن قضايا التطرف، هو الطابع الانتقائي للتعامل مع أشكال التطرف. فسياسة الحكومة الداخلية الحالية لاتزال تتعامل مع التطرف الديني علي أنه الشكل الرئيسي للتطرف، مع التجاهل التام للأبعاد الأخري مثل التطرف الاجتماعي، والتطرف الإعلامي، والتطرف السياسي، بل والتطرف الأكاديمي والرياضي.

فما نلاحظه الآن من انتشار ظاهرة التخوين والإقصاء والقذف بالعمالة، واستخدام الألفاظ الخادشة للحياء عبر التليفزيون وشبكات الإنترنت كلها مظاهر للتطرف الاجتماعي والثقافي. إن جوهر مكافحة التطرف بكل صوره له علاقة بكيفية التعامل مع الآخر، وكيفية تطوير المجتمع ليسمح بالتعايش مع المختلف بكل ما يفترضه ذلك من وجود احترام ما للأفكار المختلفة.

فمواجهة التطرف بكل صوره يعتمد علي نشر ثقافات وتعاليم التعايش مع الآخر، وترسيخ قيم الحوار والموضوعية في النقاش، والاعتراف بحق الآخر في الاختلاف سواء كان هذا الآخر فريقاً رياضياً أو مشجعاً، أو كاتباً صحفياً أو إعلامياً أو حزباً سياسياً أو فناناً أو رجل دين طالما أن هذا الآخر لا يكفر ولا يخون ولا يسعي لهدم المجتمع أو الدولة.

ونشر هذه القيم يبدأ بالتعليم، وبالتزام الدولة المطلق بتطبيق مبدأ المواطنة وسيادة القانون، وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال التنمية الشاملة.

الحكومة في مصر تتعامل مع قضايا التطرف بنظرية اليوم بيومه أي بشكل لحظي وأحياناً انتقائي مرتبط دائماً بقضايا الإرهاب في حين أن قضية التطرف مستقلة تماماً عن الإرهاب، والذي يعد النتاج الظاهر للتطرف.


الحكومة المصرية لا تتعامل مع قضية التطرف بشكل مؤسسي فلاتزال تعتمد علي إدارة مكافحة الإرهاب في التعامل مع قضية التطرف.


إن إسناد معالجة التطرف الديني للمؤسسة الأمنية ومؤسسة الأزهر دون تطوير دور المؤسسات الثقافية والتعليم ومراكز الفكر ومؤسسات المجتمع المدني لن يحد من التطرف، إن خلق شراكة بين هذه المؤسسات جميعاً لتكون قادرة علي مكافحة التطرف بصورة فعالة دون انتقاله إلي الأجيال الجديدة من الشباب أمر لازم لحماية المجتمع والدولة من الانهيار.

ولا شك أن دعوة الرئيس السيسي علي أهمية تجديد الخطاب الديني خطوة مهمة نحو مكافحة التطرف، كما أن دعوته للأزهر لتحمل مسئولياته خطوة أخري رئيسية نحو الطريق الصحيح. ولكنها خطوة غير كافية. فنحن بحاجة لما هو أبعد من تجديد الخطاب الديني، نحن بحاجة إلي القضاء علي فقه التقليد والجمود، نحن بحاجة لفتح باب الاجتهاد والتطوير المؤسسي لمشيخة الأزهر ذاتها.

يجب أن نتعامل مع هذه المسألة بحذر شديد، فدعوة الرئيس كما فهمتها لا تعني حصر الدور المصري في مجال مكافحة التطرف في مؤسسة الأزهر، إن الدعوة كما فهمتها هي أن تكون مصر بكل مؤسساتها الحكومية ومراكزها الفكرية والتعليمية الدولة القائدة في مجال مكافحة التطرف في المنطقة، وليست طاقة التطرف.

كلمة أخيرة في شأن السياسة النقدية للبنك المركزي:
هاجم بعض المصرفيين دعوتي بضرورة تفعيل المجلس التنسيقي بين الحكومة والبنك المركزي بشأن أهداف السياسة النقدية. إن اقتراحي بتفعيل المجلس التنسيقي ليس اختراعاً، بل هو مطالبة بتفعيل القانون، فالمادة (5) من قانون البنك المركزي تنص بوضوح وبشكل لا يحتمل التأويل علي أن «يضع البنك المركزي أهداف السياسة النقدية بالاتفاق مع الحكومة، وذلك من خلال مجلس تنسيقي يشكل بقرار من رئيس الجمهورية». فهل المطالبة بتفعيل القانون وتطبيقه أمر صار محلاً للنقد؟!

ما أحوجنا في هذه المرحلة إلي التنسيق بين السياسات النقدية والمالية.... هل أنتم سعداء بهذه الجزر المنعزلة.......... هل مطالبة البنك المركزي بالإعلان عن أهداف سياسته النقدية جريمة تستحق النقد؟! هل مطالبة الحكومة بأن تعلن عن سياستها المالية، وألا تعمل بمعزل عن البنك المركزي أمر يتعارض مع استقلالية البنك المركزي. البنك المركزي طبقاً للمادة 5/1 من قانون إنشائه مسئول عن (تحقيق الاستقرار في الأسعار وسلامة النظام المصرفي في إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة).

فكل ما نطالب به التنسيق بين السياسات النقدية والسياسة الاقتصادية العامة للحكومة إن وجدت !! اللينك 
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الخميس، 16 يوليو 2015

الدروس المستفادة من يوميات مواطن في إدارة المرور

جريدة الاخبار - 16/7/2015

أما آن الأوان لكي نبدأ بجدية في تفعيل النظم الإلكترونية في الجهات الحكومية؟! أما آن الأوان لتطبيق نظم السداد المالي عن طريق التليفون والكروت كما يحدث في «كينيا»؟!!

اشتريت مؤخراً سيارة جديدة صغيرة الحجم لكي تعينني علي التحرك داخل شوارع القاهرة التاريخية ووسط البلد المزدحم. والسيارة كانت علي الزيرو، وقد قررت أن أقوم باستخراج الرخصة للسيارة بنفسي دون إجراء توكيل مستغلاً وجود بعض السويعات القليلة المتاحة يوم السبت. وابتداء مواعيد المقابلات من الساعة 12 ظهراً في هذا اليوم. فتوجهت إلي إدارة مرور 6 أكتوبر مع مندوب الشركة البائعة في تمام الساعة التاسعة والنصف. وتبدأ إجراءات استخراج الرخصة بإجراء الفحص الفني واستخراج بصمة لموتور وشاسيه السيارة، وتوقعت أن يأخذ هذا الإجراء 10 دقائق علي الأكثر، إلا أنه استغرق ثلاث ساعات تقريباً.

والبداية كانت بطابور طويل للسيارات في منتصف الشارع الجانبي، وكان طابور الفحص بطبيعة الحال له أجنحة متعددة. ووقفت جميع السيارات مختلطة ببعضها البعض، سيارات النصف نقل مع سيارات الأتوبيس الخفيفة مع سيارات الميكروباص بجوار سيارات الركوب القديمة، وتزاحمها سيارات الركوب الحديثة. ولكم أن تتصوروا شكل طابور الفحص.

وتلاحظ لي منذ اللحظة ثلاثة أمور: أولها، قلة عدد الفنيين المسئولين عن أخذ البصمة بالمقارنة لعدد السيارات محل الفحص. والأمر الثاني، هو اتباع إجراءات بدائية في أخذ البصمة وخلو أيدي الفنيين من أية آلات أو معدات حديثة تتناسب مع التطور الحاصل في صناعة السيارات، فكانت البصمة تؤخذ بذات الطريقة التي كانت تؤخذ بها عام 1983 -وهو العام الذي رخصت فيه أول سيارة في حياتي، وكانت صناعة شركة نصر (فيات 127). وأما الأمر الثالث، فهو أن إجراء الفحص وكل ما يتخذ من إجراءات يتم في الشارع في عز الحر وفي ظروف غير آدمية لا للعاملين ولا لأصحاب السيارات.

وبعد انتظار في طابور السيارات محل الفحص لمدة ساعة تقريباً، جاء عليّ الدور. وقد لاحظت محاولات متكررة من الفني المختص للتهرب من فحص سيارتي، وقررت التوجه إليه مباشرة ببعض الغضب وسألته عن السبب، فرد قائلاً: «أخذ بصمة العربية دي بياخد منّي علي الأقل ساعة لأنها بتيجي من المصنع عليها شمع، والفتحة المخصصة للموتور ضيقة جداً، وليس معي معدات». وكان يوجد صبي يتجول بين السيارات فهمت أنه مساعد فني مسئول عن فك بعض أجزاء الموتور حتي يقوم الفني بأخذ البصمة.

وكانت أيدي الفني المختص ملتهبة نتيجة كثرة تلامسها بالمواتير الساخنة للسيارات، وبها بعض الحروق الخفيفة، فأشفقت عليه، واتخذت قراراً بالمخاطرة بفك أجزاء من موتور السيارة مما يمكن فكه، وفك خراطيم المياه مع تسرب مياه البطارية حتي يمكنه الحصول علي البصمة. واستغرق الأمر أكثر من ساعة ونصف حتي وصلت الساعة 12:20، ولم تكن البصمة واضحة، ولكن تم فك شفراتها برقم الشاسيه الموجود علي فاتورة البيع.وبعد هذه العملية القيصرية؛ كانت المفاجأة أن الخزينة تغلق في تمام الساعة 12 ظهراً!!ومن ثَمّ لم يكن من الممكن استكمال الإجراءات، وكان واجباً أن تعود في يوم آخر. ورغم الصدمة وفوات مواعيدي كنت سعيداً بالخروج من هذا الفخ والهروب من حرارة الشمس الملتهبة.

ونظراً لظروف عملي لم أستطع العودة في اليوم التالي، ولكن عدت إلي إدارة مرور 6 أكتوبر بعد يومين لاستكمال الإجراءات، وكنت أكثر حيطة فذهبت في تمام الساعة التاسعة صباحاً، وأخذت معي مندوبين وليس واحداً لكي يقف كل منّا في طابور مختلف للإسراع بالإجراءات حيث كنت مضطراً للمغادرة في تمام الساعة 10:30 للحاق بمواعيد العمل في ذلك اليوم. ولكن للأسف لم تأت الرياح بما تشتهي السفن، فكانت الطوابير طويلة والإجراءات بطيئة. وتلاحظ لي وأنا داخل المبني أنه لا يوجد به جهاز تكييف واحد إلا في غرفة الكمبيوتر، وكان رئيس وحدة المرور يجلس خلف موظفيه في نفس الغرفة في ظروف أقل ما توصف به أنها غير لائقة وغير مريحة للعمل.

وأثناء وقوفي للانتظار وجدت صديقا لي يقوم بتجديد رخصة سيارته وكانت سيارة BMW، فضحكت وقلت له بنظرة الخبير «قدامك ساعة علي الأقل». وتم رفع سيارته بشكل بدائي علي قطعة حديد، وكان من الممكن أن تقع السيارة علي الفني ولكن ربنا سترها، وبالطبع لا يوجد أي غطاء أو جرار أو قطعة قماش حتي ينام عليها الفني أثناء الفحص، ولكن كان ينبطح علي الأسفلت في عز حرارة الشمس لأخذ البصمة.

وأعود مرة أخري لرخصتي، ففي تمام الساعة 11:30 صباحاً -بعد ساعتين بالتمام والكمال- جاءت الصيحات من كل جانب للنداء علي اسمي لتبشيري بأن الرخصة قد صدرت وحان استلامها، فجريت فرحاً -بعد أن ضاع عليّ موعدي الأول- واستلمت الرخصة، وحان موعد الذهاب لاستلام اللوحة المعدنية. ووقفت في غرفة اللوحات المعدنية، وهي غرفة صغيرة بها اثنان من مساعدي الشرطة، ولا تحتوي علي أية شبابيك أو نور ، وطبعاً لا يوجد بها أي تكييف أو حتي مروحة. المهم طال انتظاري لاستلام اللوحات لمدة تزيد عن نصف ساعة تقريباً، وكانت الحركة غريبة فتساءلت بحدة، فكانت الإجابة الصادمة أنه لا يوجد لوحة معدنية بنفس الرقم الموجود علي الرخصة المطبوعة!!! فالبيان يتم إفراغه يدوياً، ثم يتم طبع الرخصة إلكترونياً، وواضح أن مساعد الشرطة قد أعطي رقم لوحة معدنية مختلف غير موجود لديه بطريق الخطأ. فتساءلت: وما الحل؟ عموماً حصل خير، نأخذ رقم لوحة آخر؛ فكان الرد الصدمة أن البيان علي الرخصة نزل علي قاعدة البيانات بمدينة نصر، ويجب تحرير مذكرة، والذهاب إلي الإدارة المختصة بمدينة نصر لتصحيح الخطأ وتغيير رقم الرخصة!!!

ظللت متماسكاً من هول الصدمة، وطلبت من المختص أن يعطيني الرخصة وتوجهت بها إلي الضابط المختص رئيس وحدة المرور، وبعد دقيقتين تفهّم وجود الخطأ، والحق يقال، أنه قام بنفسه وفوراً بالاتصال بالجهات المختصة، وأعلمهم بالخطأ وقال علي المكالمة بالحرف الواحد: «يا فندم الغلطة من عندنا ولا يجب أن يتحملها الدكتور...، فأرجو التصحيح علي مسئوليتي، وسأرسل المذكرة غداً». وبعد خمس دقائق تم تسليمي رخصة جديدة برقم جديد، واستكملت الإجراءات، وخرجت باللوحات المعدنية في تمام الساعة الواحدة تقريباً.

أخلص من هذه الرحلة، أن عملية استخراج رخصة سيارة جديدة عالزيرو استغرقت تقريباً سبع ساعات عمل موزعة علي يومين، وأهدرت وقتاً وجهداً دون طائل أو داع.وأننا مازلنا نعمل بنفس الآليات البدائية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، علي الرغم من تطور صناعة السيارات علي مدار هذه الأعوام،والتطور التكنولوجي والإلكتروني وتوفر نظم الحاسب الآلي، والسداد المالي الإلكتروني -والذي يطبّق الآن بشأن المخالفات المرورية؛ إلا أننا مازلنا نتبع الأدوات العقيمة ونقع تحت مخاطر الخطأ البشري خاصة في ظل ظروف عمل صعبة.

أما آن الأوان لكي نبدأ بجدية في تفعيل النظم الإلكترونية في الجهات الحكومية؟! أما آن الأوان لتطبيق نظم السداد المالي عن طريق التليفون والكروت كما يحدث في «كينيا»؟!! أما آن الأوان لكي نخلق للعاملين في الجهات الحكومية بيئة آمنة للعمل، وبيئة نظيفة ومريحة؟!! أما آن الأوان لمراجعة الدورات المستندية داخل مؤسساتنا الحكومية والتخلص من كل ما هو غير ضروري؟!!

أقولها منذ عشرين عاماً، وسأظل أقولها حتي آخر العمر... الطفرة الحقيقية ونقطة الانطلاق تبدأ من الإصلاح المؤسسي لأجهزتنا الحكومية، ولنبدأ بالتدريج. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الخميس، 9 يوليو 2015

الدولار وسنينه

جريدة الاخبار - 9/7/2015


أثار قرار البنك المركزي المصري مؤخراً برفع سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري بحوالي 20 قرشاً خلال يومين متتاليين جدلاً كبيراً ما بين مؤيد ومعارض.

ودعوني أبدأ ببعض الحقائق التي قد لا تكون واضحة لدي الكثيرين. إن أهداف البنك المركزي طبقاً لقانون إنشائه، القانون رقم 88 لسنة 2003 تنحصر في هدفين رئيسيين، وهما تحقيق الاستقرار في أسعار السلع والخدمات، أي الحد من التضخم وارتفاع الأسعار كهدف أول. أما الهدف الثاني فهو العمل علي سلامة النظام المصرفي ومتانته في إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة. وعلي الرغم من استقلالية البنك المركزي، فإن القانون يفرض علي البنك المركزي والحكومة، بأن يقوم البنك المركزي بوضع أهداف سياسته النقدية بالاتفاق مع الحكومة، وذلك من خلال مجلس تنسيقي يشكل بقرار من رئيس الجمهورية.


ولا يكفي أن يُدعي محافظ البنك المركزي إلي اجتماعات اللجنة الاقتصادية الوزارية بل يجب أن يكون ذلك من خلال مجلس تنسيقي يتم فيه الاتفاق علي أهداف السياسة النقدية. وللأسف هذا المجلس التنسيقي معطل الآن دون سبب واضح.
والبنك المركزي يعمل علي تحقيق هذه الأهداف من خلال آليتين رئيسيتين، الأولي هي السياسات النقدية عن طريق وسائل متعددة بما في ذلك إدارة السيولة النقدية في الاقتصاد القومي والتأثير في الائتمان المصرفي، وتنظيم وإدارة سوق الصرف الأجنبي، وذلك بهدف الحد من التضخم وارتفاع الأسعار. أما الآلية الثانية فهي الرقابة علي البنوك بغرض المحافظة علي سلامة القطاع المصرفي.

فتنظيم وإدارة سوق الصرف الأجنبي هو من صميم عمل البنك المركزي.
ولكن هناك حقيقة هامة أخري يجب أن نعيها، أنه مهما كان أداء البنك المركزي جيداً، فإن السياسات النقدية وحدها لا تكفي ولن تحقق أية نتائج إيجابية؛إذ أن أداء الاقتصاد الكلي ضعيف، والسياسات المالية والضريبية مرتبكة، والتدفقات النقدية من العملة الأجنبية محدودة، والميزان التجاري به عجز بحيث تعتمد مصر في وفاء معظم احتياجاتها علي الاستيراد بالعملة الصعبة. ويجب أن نذكّر بأن نجاح سياسات البنك المركزي عام 2004 وما تلاها، وانخفاض سعر الدولار الأمريكي بعد تعويم الجنيه المصري عام 2003، وزيادة الاحتياطي النقدي الأجنبي إلي 35 مليار دولار أمريكي؛ كل هذا لم يكن ممكناً لولا تحسن أداء الاقتصاد القومي ككل، وزيادة التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية، وزيادة الاستثمارات الأجنبية بمعدل غير مسبوق.
فالبنك المركزي وحده والسياسات النقدية بمعزل عن السياسات المالية، وتحسين أداء الاقتصاد القومي ككل لن تؤدي إلي نتيجة، ولن تحمي قوة الجنيه المصريِ، ولن تقضي علي السوق السوداء مهما فعلنا، ولن تزيد من الاحتياطي النقدي الأجنبي. بل أقولها بشكل واضح؛ أن السياسات النقدية الحالية بمعزل عن كل ذلك ستؤدي إلي سلبيات أكثر، وتؤدي إلي الانكماش الاقتصادي ورفع التضخم وليس الحد منه.

فإذا أردنا أن نتأمل قرار البنك المركزي الأخير بتخفيض قيمة الجنيه ودوافعه؛ فلا شك أن للبنك المركزي مبرراته، فانخفاض اليورو في مقابل الدولار الأمريكي إزاء الأزمة المالية في اليونان، وارتباط الجنيه المصري بالدولار، أدي إلي انخفاض اليورو في مواجهة الجنيه المصري، حيث انخفض اليورو بأكثر من جنيه ونصف تقريباً خلال شهر واحد تقريباً، وهو ما يعني عملياً أن منتجات اليورو صارت أرخص، وعملياً أصبح الاقتصاد المصري يدعم الواردات الأوربية، وهو ما كان يقتضي التدخل من البنك المركزي. في ذات الوقت لم يعد من المنطقي تثبيت سعر الدولار بشكل غير واقعي، والتأثير السلبي علي حصيلة مصر من الصادرات رغم محدوديتها، ولهذا أيضاً كان لابد من تدخل البنك المركزي. كما أن إدارة النقد الأجنبي بإجراءات فوقية تحد من السيولة المتاحة لن تؤتي بثمارها علي المدي الطويل، وإنما هي مجرد تحركات تكتيكية.

المشكلة تكمن أن هذه القرارات للبنك المركزي تُتْخَذ بشكل منعزل ودون تنسيق حكومي، وهذا في رأيي خطأ مشترك بين الحكومة والبنك المركزي، فلا شك أن رفع قيمة الدولار في هذا التوقيت سيؤدي إلي ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه، فعلي الرغم من تخفيض الجنيه علي نحو لا يزيد علي 2%؛ فإن الأثر التضخمي لذلك ربما يتعدي 10% نتيجة غياب منظومة تنظيم الأسعار في السوق، وانعدام الرقابة، وضعف المنافسة، وآليات حماية المستهلك. كما أن سياسات البنك المركزي الأخيرة بغرض الحد من آثار السوق السوداء لا شك أدت إلي إحداث انكماش اقتصادي وتأثير سلبي علي العديد من الأنشطة والصناعات، وهو ما يتعارض مع السياسة المالية للحكومة والتي تستهدف زيادة الإنفاق وتنشيط الاقتصاد.

أيضاً سياسات البنك المركزي الأخيرة يشوبها بعض الغموض، فصار من غير المعلوم ما هي سياسات البنك المركزي المقبلة، وأصبحت السياسات النقدية غير واضحة، فاختيار الإجراءات وتوقيتها رخصة وحق للبنك المركزي، ولكنها يجب أن تكون في إطار سياسات نقدية معلنة علي الحكومة وللمستثمرين، ومن قبلهم جميعاً المواطنين.

الخلاصة، أننا نعاني من عدم التنسيق بين السياسات المالية والنقدية، ونعاني أكثر من غموض السياسات المالية والنقدية علي حد سواء، وهذا هو بيت الداء، فلا تزال سياساتنا النقدية والمالية تدار بمنطق الحرب خدعة، وهذا أمر يضر الاقتصاد والاستثمار بشكل كبير، فهذا الغموض يحول دون التخطيط والبناء. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

الخميس، 2 يوليو 2015

الزيارة الأخيرة لمكتب النائب العام

جريدة الاخبار  - 2/7/2015


آخر لقاء جمعني بالراحل الشهيد المستشار/ هشام بركات كان منذ حوالي ثلاثة أسابيع تقريباً. النائب العام هشام بركات كان المسئول الوحيد في مصر الذي أطرق بابه دون موعد مسبق رغم مسئولياته الجسام. في آخر لقاء جمعني به ذهبت إلي مكتبه لسبب طارئ يتعلق بالعمل، ودون موعد مسبق. دخلت إلي مدير مكتبه والذي يعرفني جيداً، فبادرته، كالعادة جئت دون موعد، فرد عليّ فوراً ده سيادة النائب طلب نتصل بك.

فدخل وفي أقل من دقيقة عاد، وقال لي تفضل، واستقبلني النائب العام بابتسامة هادئة كعادته، فبادرته أنا جاي النهاردة زيارة وتجارة مش جاي لوجه الله علشان عندي مشكلة، فضحك وتعانقنا... كان لديه قدرة عالية وموضوعية علي التفرقة بين العام والخاص، فلم تؤثر علاقته الإنسانية أبداً علي ضمير القاضي، ولا علي حياديته، وكان يعلم أقدار الناس جميعاً ويحترم الجميع، ولم يكن يجامل أحداً كائناً من كان دون وجه حق.

في هذا اللقاء الأخير، ناقشني في فكرة إقامة مشروع سكني لشباب معاوني ووكلاء النيابة، وقد قامت النيابة بالفعل بشراء هذه الأرض من هيئة المجتمعات العمرانية وبسعر مرتفع جداً. وصارحته بأن هذا السعر مرتفع وأن التكلفة ستكون غالية. ولكنه بادرني بالقول «أنا عاوز أولادي (ويقصد أبناءه من أعضاء النيابة) يكونوا مستريحين وعايشين بكرامة ومش محتاجين، القاضي العادل لازم تكون كرامته وحياته مصونة». لم يكن مهموماً فقط بالقضايا الجنائية ولكنه كان مهموماً ببناء شخصية وكيل النائب العام وبصون كرامته وباستقلاليته، ولقد كان نموذجاً للإدارة المتميزة. وقلت له بس سيادة النائب انتم اشتريتم الأرض بسعر عالي، فرد عليّ يعني يا دكتور هنبقي مسئولين عن حماية المال العام، ونشتري لأولادنا أعضاء النيابة بأقل من سعر المثل. ومع ذلك انا عاوز اديهم بيوت محترمة ودن إرهاقهم مالياً.

كان رمزاً للعدالة بكل ما تعني الكلمة، وقاضياً جليلاً بالمعني الحرفي للكلمة. وفي ذلك اللقاء دخل أحد المستشارين السابقين، وبدا عليه أنه فوق الخمسة والسبعين عاماً، وكان يتصرف بأريحية شديدة، واستقبله النائب العام بكل تبجيل واحترام، وعرفت من الحوار أن هذا المستشار الجليل كان رئيساً للدائرة التي كان النائب العام عضواً بها في مستهل حياته القضائية، وقد شاهدت هذا القاضي المحترم يتلقي العزاء في النائب العام أمس. وكانت دلالة ذلك أنا النائب العام الراحل كان يحترم ويجل زملاءه ورؤساءه السابقين ويعترف لهم بالجميل ويعاملهم بكل التقدير دون نكران، وهذا ما جعله محبوباً بين زملائه ورؤسائه السابقين ومرءوسيه. وفي ذات اللقاء، وأثناء حديثنا استأذن أحد أعضاء المكتب الفني للحصول علي توقيع النائب العام. وبعد قيامه بالتوقيع، نظر لي قائلاً: «جبت للناس حقها بالقانون ليه مصرين علي الخروج علي القانون». واستطرد قائلاً: أنا لسه موقع علي أمر بحبس ضابط شرطة، وخلاصة المسألة أن أحد أصحاب معارض السيارات احتك بضابط الشرطة وأهانه وقام بالاعتداء عليه، فقام النائب العام بإصدار أمر بالقبض علي صاحب المعرض، ولكن لم ير الضابط أن هذا الأمر كافٍ، فقرر التسلل إلي قسم الشرطة والاعتداء علي المواطن المحبوس، فما كان من النائب العام حين اتصل علمه بالواقعة إلا أن أصدر أمراً بالقبض علي ضابط الشرطة، ولم يكن يجامل في الحق، ولا يفرق بين أحد من أبناء الوطن، ولم يكن يحركه شيء سوي الواجب والعدل. وأعلم أن التدخل في عمله كان خطاً أحمر فكان يقدس معني الاستقلالية للنيابة العامة والقضاء.

ومن بين ما ناقشناه في هذه الزيارة الأخيرة، كان مشروع قانون السجون، وأبدي النائب العام قلقه مما راجعه، وتراجع دور النيابة العامة في الإشراف علي السجون في المشروعات الأولية المعروضة عليه، وكانت وجهة نظره أن الرقابة علي السجون من النيابة العامة واجب والتزام يجب حمايته لأنه حق للمواطنين، وأنها ليس مسألة وجاهة بل أمر ضروري لحماية حقوق الإنسان.

دارت في عقلي ملامح هذا اللقاء الأخير كشريط للذكريات، وكلها تعكس قيمة ومقام هذا الرجل العظيم الذي فقدناه علي أيدي الغدر والخيانة. كان يعشق مصر وترابها، وكان إنساناً بسيطاً، وهو في غمرة انشغاله لم ينس أن يحدثني عن آخر أحفاده من ابنه الوحيد، وأنه سعيد به لأنه الحفيد الأول الذي يحمل اسمه ولقب العائلة، حيث إن أحفاده الآخرين من بناته، وداعبته يا سيادة النائب حضرتك صعيدي ولا إيه فقال كلهم حتة مني بس ده أول حفيد يشيل اسمي!! كان منتهي آماله وقد صارحني بذلك أن يعود إلي منصة القضاء بعد انتهاء مدة عمله كنائب عام وان يحظي بقدر من الراحة مع أسرته.

كان إنساناً محباً لبلده وعائلته ومهنته ويحترم نفسه احتراماً لمهنة القضاء ومسئوليته باعتباره المحامي الأول لمصر. رأيته كيف يعامل أعضاء النيابة كبيرهم وصغيرهم بكل الاحترام، وكيف يستمع إليهم ويحرص علي مناقشتهم.

إن اغتيال المستشار هشام بركات لم يكن اعتباطاً، فهو رمز للقضاء والعدو الأول للإرهاب، وصاحب قرار النيابة بفض اعتصامات رابعة، ولم يكن يهاب الموت. وكان يتوقعه بصدر رحب في سبيل بلاده. إن اغتيال النائب العام ليس مجرد اغتيال لشخصه بل محاولة لإرهاب قضاة مصر والنيل من عزيمتهم، وعزيمة المصريين.... هذه الخسة والنذالة يجب ألا تثنينا عن الاستمرار في مسيرة الإصلاح والتنمية.أرادوا باغتياله ان يكسروا هيبة الدولة وأن يرهبوا الشعب،ولن يفلحوا.

تعلو الأصوات الآن بضرورة إقامة محاكمات عسكرية واستثنائية سريعة لقادة التكفير وزعماء الظلام لاستئصالهم بأسرع وقت. وأقولها بصوت عال، إن قوة مصر، وقوة الدولة تكمن في تطبيق القانون، وتحقيق العدالة الناجزة من خلال القضاء العادي، وليس من خلال المحاكمات الاستثنائية.إن هناك ألف طريقة لتطوير أداء القضاء العادي وتحقيق العدالة الناجزة. الدولة القوية لا تنتقم، ولا تثأر، وإنما تطبق القانون وتقيم العدل، وإحدي صوره القصاص وفقاً لأحكام القانون وبإجراءات عادلة وناجزة. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك