الخميس، 20 أكتوبر 2016

بعيداً عن الاقتصاد وهمومه

جريدة الاخبار - 20/10/2016

1) لم أفهم حتي الآن أبعاد الخلاف بين وزير التعليم العالي ورئيس جامعة القاهرة. الذي أعرفه أنه لا توجد في لوائح جامعة القاهرة أو في قانون الجامعات أية شروط تستوجب الإفصاح عن الديانة، ولكن في ذات الوقت لا يوجد نص يمنع فرض مثل هذا الإفصاح. والذي عرفته كذلك أن أحد الأقسام بإحدي الكليات التابعة لجامعة القاهرة أصدرت استمارات تتضمن خانة الديانة، ولما علم رئيس جامعة القاهرة بالأمر أصدر تعليماته بحذف خانة الديانة من الاستمارة وعمم هذه التعليمات علي كافة الكليات والمعاهد. القرار إذاً لم يخرج عن الأعراف المتبعة داخل كليات ومعاهد جامعة القاهرة منذ عشرات السنين. فعلي سبيل المثال؛ خانة الديانة لا توجد ضمن أية استمارات أو شهادات تصدرها كلية الحقوق العريقة. هذا العرف المستقر عليه داخل الجامعة يتفق مع القوانين والقرارات، فما أصدره رئيس جامعة القاهرة لا يخالف قوانين الجامعة ولا يخالف العرف المستقر داخل الجامعة منذ عشرات السنين بل يؤكد عدم الخروج عليه كما حدث مع أحد الأقسام التابعة للجامعة. والأهم من كل هذا أو ذاك؛ أنه لغير أغراض الإحصاءات لا يوجد مبرر لهذه الخانة، فالأصل أن كافة المصريين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات أياً كانت دياناتهم. فلا مبرر لهذا المطلب داخل الحرم الجامعي، فأبسط حقوق المواطنة طبقاً للدستور هو معاملة المواطنين علي قدم المساواة. لا شك أن خانة الديانة قد تكون مطلوبة في بعض المعاملات كتلك المتعلقة بالأحوال الشخصية أو الأغراض الإحصائية، أما عدا ذلك فلا وألف لا. أتذكر في يوم من الأيام أني رأيت خانة الديانة في استمارة فتح حساب بأحد البنوك العامة... لم أتمالك نفسي من الغضب، ما الذي يفيد البنك من هذا البيان؟! القصة عمرها 10 سنوات تقريباً، ولم يهدأ لي بال حتي قام رئيس البنك بإصدار تعليماته وإلغاء هذه الخانة.
قد تكون هناك مبالغة إعلامية إلي حد ما صاحبت القرار الصحيح لرئيس الجامعة، لأنه لم يأت بجديد وإنما أقرّ وأصرّ علي الأعراف الجامعية، ولكن بأمانة لم أفهم لماذا يهاجم وزير التعليم العالي مثل هذا القرار؟! ولماذا هذا التراشق بين الوزير ورئيس الجامعة؟! أين القدوة؟! وأين الموضوعية في النقاش؟! أعتقد أن هناك خلافات شخصية بين الرجلين تتجاوز المصلحة العامة، وللأسف هذا الخلاف المعلن غير المبرر أضر بالرجلين، وأساء إلي صورة الجامعة المصرية والتعليم العالي.


2) إصدار الرخصة الرابعة لشركات المحمول، والتوافق علي مقابل الجيل الرابع من تكنولوجيا الاتصالات يصب في صالح المواطن المصري، فآن الأوان للدخول إلي العالم المعاصر، فخدمات الإنترنت والتواصل عبر الشبكات الإلكترونية صار أهم بكثير من استخدام التليفون كوسيلة للكلام من خلاله. ولم يكن من المقبول أن تكون مصر في مرتبة متأخرة عن معظم الدول العربية والأفريقية فيما يخص هذا النوع من الخدمات. حينما تسافر إلي الخارج وتتابع بريدك الإلكتروني أو تقوم بالتواصل الإلكتروني تكتشف أن السرعة فائقة في تحصيل المعلومات، في حين أننا نسير بسرعة السلحفاة في مصر... فالحمد لله أننا بدأنا أخيراً نلحق بركب التكنولوجيا الذي كاد أن يفوتنا. ولعل وزيري الاستثمار والمالية أكثر سعادة من وزير الاتصالات بهذا الاتفاق لأنه يدر عائداً مالياً مباشراً داخل خزينة الدولة. ولكن الأهم في رأيي من العائد المباشر هو أننا علينا أن ندرك أن قطاع الاتصالات والتكنولوجيا هو الحل الأمثل لتحقيق نهضة حقيقية للنمو في مصر... الهند والصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا اعتمدت كثيراً في نهضتها علي قطاع التكنولوجيا. وهذا القطاع كان ولا يزال القطاع الاقتصادي الأقوي بعد القطاع المصرفي... فلا تهملوه أرجوكم. عودة إلي الرخصة الرابعة؛ لا أعتقد أن هذه هي نهاية المطاف، فمصر بحاجة لمزيد من الترددات لزيادة قدرتنا علي التنافسية، وأعتقد أن الكرة الآن في ملعب الجهات السيادية للسماح بمزيد من الترددات والقدرة علي التوسع التكنولوجي.

أيضاً هناك معضلة استمرار مساهمة الشركة المصرية للاتصالات بـ 45% في رأس مال فودافون، إذ إن مساهمة المصرية للاتصالات في فودافون منذ سنوات عدة كان بديلاً عن منح المصرية للاتصالات الرخصة الرابعة، أما وقد تم منحها الآن الرخصة الرابعة وصارت منافساً لفودافون فإن الأمر برمته يحتاج إلي معالجة حكيمة، واستعراض كافة البدائل التجارية بهدوء وبعيداً عن الزخم الإعلامي. من الأمور المستعصية التي تحتاج إلي حلول سريعة كذلك تلك الخاصة بتوفير البنية الأساسية ومنح شركات المحمول القدرة علي توفير احتياجاتها من الكابلات والأبراج لتحسين مستوي الخدمات. عموماً الرخصة الرابعة كانت خطوة علي طريق الإصلاح... أتمني أن نستكمل باقي الخطوات.

3) الكاتب الكبير محمد أمين في مقاله اليومي بالمصري اليوم اعترض علي أن يتحدث من لا يندرج تحت تصنيف الغلابة -من وجهة نظره-عن قضايا الغلابة. واعتبر أن كل من يناقش هذه الأمور إنما يتاجرون بالغلابة وبالطبقة المتوسطة... اسمح لي كاتبنا الكبير أن أختلف معك... فصوت الغلابة ليس مسموعاً، وواجب علي جميع السياسيين والكُتّاب -أياً كانت خلفيتهم الاجتماعية -أن يدافعوا عن قضايا المواطنين أياً كانت. وعموماً لا تقلق يا عزيزي... فمع ارتفاع الأسعار صار غالبية المصريين غلابة!!؟ اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

الخميس، 13 أكتوبر 2016

لاجارد «أكثر شفافية من حكومتنا»

جريدة الاخبار - 13/10/2016

صرحت رئيسة صندوق النقد الدولي؛ السيدة «لاجارد» -وهي محامية فرنسية الأصل -أن القرض المزمع منحه لمصر بقيمة 12 مليار دولار أمريكي لن يعرض علي المجلس التنفيذي للصندوق قبل قيام الحكومة المصرية بفرض سياسة مرنة تخص تسعير الجنيه أمام الدولار الأمريكي. وبعبارة أخري لن تحصل الحكومة المصرية علي القرض إلا بعد القضاء علي السعرين؛ السعر الرسمي وسعر السوق السوداء، سواء من خلال تعويم الجنيه أو من خلال تحرير سعر الصرف وترك تحديده لقواعد العرض والطلب، أو من خلال تخفيض القيمة. فالصندوق ترك للحكومة حرية تحديد كيفية القضاء علي الازدواجية في السعر، كما ترك لها حرية اختيار التوقيت. أما ما ليس للحكومة أي قدر من المرونة فيه -إن شاءت القرض -فهو اتخاذ كافة الإجراءات الاقتصادية اللازمة للقضاء علي التعددية في سعر الصرف قبل الحصول علي موافقة الصندوق النهائية علي القرض. تصريح «لاجارد» ليس فيه أية مفاجأة لأن هذا هو ما أعلنه مندوب الصندوق في مصر منذ أكثر من شهرين، وهوما وافقت عليه الحكومة المصرية منذ شهرين ولكنها لم تعلن عن ذلك!! فالأمر كان مفاجئاً للمصريين وحدهم دون غيرهم لأن حكومتهم لا تصارحهم بكل الحقائق. وبالمناسبة؛ فإنه لم يحدث في تاريخ صندوق النقد الدولي أن وافقت اللجنة التنفيذية بالصندوق علي منح دولة ما قرضاً بمناسبة الإصلاح الهيكلي لاقتصادها قبل أن تصحح -من خلال سياساتها النقدية -الأمور المرتبطة بسعر الصرف، وبعبارة أخري لم يسبق في تاريخ الصندوق أن وافق علي منح قرض في حين أن الدولة طالبة القرض لديها سعران للصرف، فما بالنا بالحالة المصرية وقد وصل الفارق بين سعر الصرف الرسمي في البنوك والسوق الموازية أو السوق السوداء أكثر من 50%!! والصندوق يعد ذلك شرطا بديهيا للجدية نحو الإصلاح الهيكلي للاقتصاد وتشجيع الاستثمارات، وحصول تدفقات نقدية من الخارج، والحد من العجز في ميزان المدفوعات الخارجية. ناهيك عن أن التضخم قد حدث بالفعل، فكل أسعار الخدمات والسلع الآن في مجملها -إلا فيما ندر -تتخذ علي أساس سعر الصرف في السوق الموازية وليس السعر الرسمي!!


الأخطر من ذلك أن السيدة «لاجارد» صرحت كذلك بأن إلغاء الدعم علي المنتجات البترولية شرط مسبق للعرض علي اللجنة التنفيذية بالصندوق والحصول علي القرض. ويستهدف هذا الإجراء خفض الإنفاق العام ومن ثم الحد من العجز في الموازنة. ولذلك زادت حدة المضاربات في السوق السوداء خلال الأيام القليلة الماضية حتي اقترب سعر الصرف في السوق السوداء من 15 جنيهاً، فالكل ضارب علي أن قرار الحكومة بتحرير سعر الصرف ورفع الدعم قد آن أوانه، فزادت التكهنات وارتفعت المضاربات، وتوسعت مساحة الظلام وعدم التيقن، والنتيجة ارتفاع أسعار السلع لأعلي معدلاتها، وانسحق المواطن تحت مقصلة الأسعار... مازلت علي رأيي بأن الأزمة تكمن عند الحكومة في سوء إدارتها للأزمات. أما آن الأوان للخروج من هذه الحلقة المفرغة ومصارحة الناس بما يحدث، وبخطط الإصلاح إن وجدت، وما يترتب عليها من آثار؟!... أما آن الأوان أن تتعلم الحكومة من دروس التاريخ، وأن الإنسان عدوٌ لما يجهل؟ وقد صرنا جميعاً نجهل نوايا الحكومة وما تقوم به!! فأصبحنا نسمع عن نوايا الحكومة من «لاجارد» وغيرها، ولكن حكومتنا لا تتحدث إلينا وتتجاهلنا وكأننا غير معنيين بالأمر!!

ولننتقل إلي أمر آخر لا يقل خطورة، وهو الخلاف المصري -السعودي وتداعياته بخصوص الشأن السوري. لا شك أن هناك خلافاً حاداً في الرؤي الاستراتيجية بين مصر والسعودية بخصوص التعامل مع القضية السورية؛ فالموقف المصري ينطلق من نقطة أساسية وهي أن سقوط النظام السياسي الحالي في سوريا دون مرحلة انتقالية ووجود بديل سلمي سيؤدي إلي وقوع سوريا في براثن الجماعات المتطرفة، وأن معضلة سوريا أن جيشها المبني علي أسس طائفية في صدام مباشر مع شعبه، وسقوط النظام السياسي دون إيجاد بدائل سيؤدي إلي تحول هذا الجيش إلي ميليشيات مسلحة متصارعة وهو ما سيعقد الأمور، كما حدث تماماً في العراق بعد تفكيك الجيش العراقي وحلّه بعد سقوط صدام حسين، فصارت الأسلحة الثقيلة في أيدي كل من يدفع. كما أن سقوط دمشق في أيدي الجماعات الإرهابية والمتشددة كما حدث في العراق وليبيا فيه تهديد مباشر للأمن القومي المصري بكل ما تعنيه الكلمة. فالموقف المصري ليس مع دعم نظام بشار، وإنما يخشي سقوط سوريا في أيدي الجماعات الإرهابية لو لم توضع بدائل سلمية تحول دون سقوط دمشق في أيدي هؤلاء. أما الموقف السعودي فينطلق من نقطة مغايرة وهي «إيران» فإيران استغلت الموقف في اليمن والعراق وغزة وجنوب لبنان وسوريا، من خلال توظيف النزعة الدينية والطائفية لمحاصرة السعودية، ومد نفوذها الإقليمي. فالأمن القومي من وجهة النظر السعودية يستوجب فك هذا الحصار الذي بدأ يزعزع الاستقرار داخل السعودية ذاتها، ولذا لم تجد السعودية بديلاً سوي مجابهة الحوثيين الشيعة في اليمن، وإسقاط النظام السوري العلوي الشيعي في سوريا للحد من النفوذ الإيراني. وهو ما يبرر التقارب التركي -السعودي والذي تم تتويجه بتوقيع أكثر من 18 اتفاقية اقتصادية. هذا هو مربط الفرس بشأن الخلاف المصري السعودي، وهو اختلاف أو خلاف مشروع، فكل دولة تسعي للحفاظ علي أمنها القومي المباشر. وهذا الاختلاف في الرؤي الاستراتيجية أمر طبيعي ويمكن حله بل ويجب حله من خلال إيجاد نقاط للتوافق. أما ما يحدث من عبث علي مواقع التواصل الاجتماعي، والشتائم المتبادلة بين الصحف والإعلاميين فهو هزل بكل ما تعنيه الكلمة، لا أعلم ما يدور في خفايا المعترك السياسي وأروقة صنّاع القرار السياسي، لكن الشئ المؤكد أنه لا يمكن ترك التصدع السياسي في العلاقات المصرية السعودية لأن يتفاقم بهذه الحدة، فهذا يضر مصر والسعودية وشعبيهما. لا شك أن آباء ومؤسسي إسرائيل ينظرون من عَلٍ علي الوضع العربي بمنتهي السعادة، فلم يكن أبداً في مخيلتهم أن يصل التصدع العربي إلي هذا الحد!! انهيار سوريا والعراق وإنهاك مصر والسعودية هو منتهي الأمل لهؤلاء.

كلمة أخيرة... إن الوضع الاقتصادي الداخلي في مصر وتفاقم الأزمة يضعف كثيراًقدرة مصر الاستراتيجية والسياسية، فالسيطرة التركية والإيرانية الآن علي زمام الأمور في الشرق الأوسط لم يكن متاحاً أبداً لو لم يحققوا ما حققوه من دفعة اقتصادية ومن مركز اقتصادي مريح، فرغم الخلاف التركي -الروسي السياسي تم التحرك وتوقيع اتفاقيات اقتصادية متنوعة منذ أقل من أسبوع. علي القيادات السياسية المصرية والسعودية حل الخلافات السياسية فوراً، فحجم الاختلاف بين مصر والسعودية لا شك أقل كثيراً جداً من حجم الخلاف الإيراني -الأمريكي، أو التركي -الروسي، ومع ذلك فالتحرك السياسي بين هذه الدول يصير بشكل أكثر كفاءة منه علي الجانب المصري -السعودي!! لا تجعلوا مواقع التواصل الاجتماعي والتراشق الإعلامي تهدم المصالح المشتركة للمصريين والسعوديين علي حد سواء... هل يسمعني أحد؟! اللينك
استمع الي المقال على Soundcloud.. اللينك

الخميس، 29 سبتمبر 2016

النمو أم التنمية.. أم الاثنان معاً ؟

جريدة الاخبار - 29/9/2016

قرأت  بالأمس مقالاً مهماً للمهندس أحمد عز - الرئيس الأسبق للجنة الموازنة بمجلس الشعب بجريدة المصري اليوم. المقال خلاصته أن الواقع الاقتصادي الحالي في مصر لا يدعو للتشاؤم، وأن الأزمة الحالية ليست الأزمة الاقتصادية الأولي في تاريخ مصر الحديث، وليست الأزمة الأكبر. وعلي سبيل المثال فإن عجز الموازنة الحالي 12%، في حين أنه في منتصف الثمانينيات قد بلغ 18%، وأنه في عام 2002 قد بلغ 23%. أي أن وضعنا الاقتصادي - وفقاً لكاتب المقال - أقل خطورة وسوءاً الآن مما كنا عليه في هذه الفترات. ويضرب كاتب المقال مثالاً آخر للتدليل علي وجهة نظره؛ منها أن نسبة الدين بلغت الآن حوالي 100% من الناتج القومي، في حين أنه في عام 1988 قد تجاوز حجم الدين 212%، وأن نسبة الدين قد بلغت 103% في عام 2003. ويري الكاتب أن الأمر علي هذا النحو لا يدعو إلي التشاؤم، بل هناك إمكانية لتحسين الوضع الاقتصادي بشرط اتباع سياسات تركز علي (النمو(Growth، وأن النمو الاقتصادي المستدام كفيل بتجاوز هذه المشكلات، ولا داعي للانزعاج المبالغ فيه.


وأود في هذا السياق أن أبدي بعض الملاحظات... الملاحظة الأولي: أن الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية ممكن وليس مستحيلاً فمقومات الاقتصاد المصري وفرص النمو جبارة. وكما ذكرت من قبل تكراراً ومراراً فإن مصر من أكثر الاقتصاديات المؤهلة للنمو والنهوض، وأن فرص الاستثمار فيها هائلة. وأما الملاحظة الثانية أنه في رأيي الذي يدعو للانزعاج ليس في الأزمة الاقتصادية، وإنما في كيفية مواجهتنا الأزمة الاقتصادية علي مدار الأعوام الماضية. فالغموض الذي يشوب عملية الإصلاح الاقتصادي والتوجه الاقتصادي وكيفية التعامل مع الأزمة هو الأزمة ذاتها،وهو الذي خلق مناخاً تشاؤمياً وانزعاجاً، فالواقع الاقتصادي ليس هو الأزمة، وإنما التعامل معه وغياب الرؤية هو الأزمة الحقيقية. وأما الملاحظة الثالثة فهي أن الأزمة الاقتصادية الحالية مصحوبة بأزمة اجتماعية أكثر ضراوة وصعوبة عما سبق في تاريخنا المعاصر، إذ انعكست هذه الأزمة الاقتصادية علي التنمية الاجتماعية، بمعني أن المشكلة الحقيقية التي تحتاج إلي تعامل عاجل هي الأزمات الاجتماعية التي تفاقمت نتيجة الوضع الاقتصادي، فمعدل البطالة زاد بشكل غير مسبوق بحيث تجاوز نسبته الـ15%، وزاد بين الشباب، وهو الأمر الذي لم يكن قائماً في ظل أزمة الثمانينيات، ولا في ظل أزمة نهاية التسعينيات. نفس الأمر ينطبق علي معدل الفقر، فقد زاد هذا الأخير عن نظيره في حقبة الثمانينيات والتسعينيات حيث وصل إلي 25% تقريباً. وهذه المؤشرات الاجتماعية هي الأخطر والتي تجعل التعامل مع التنمية أكثر ضرورة، ونفس الأمر ينطبق علي معدلات التضخم وزيادة الأسعار.

وأما الملاحظة الرابعة فهي أن النمو الاقتصادي قد يؤدي إلي الخروج من الأزمة الاقتصادية كما حدث خلال الفترة من عام 2004 إلي عام 2010، ولكنه لا يكفي وحده للخروج من الأزمة الاجتماعية الطاحنة التي تؤثر علي خدمات الصحة والتعليم والمرافق العامة. فالخروج من الأزمة يحتاج إلي نمو وتنمية معاً في ذات الوقت. فالنمو الاقتصادي عام 2004 لم يكن كافياً للخروج من الأزمة الاجتماعية، فالإصلاحان الاقتصادي والاجتماعي يجب أن يكونا في مسارين متلازمين.

وأما الملاحظة الخامسة أن ما فعلناه من عام 2004 إلي عام 2010 كان إصلاحاً يركز علي الهيكل الاقتصادي وتحقيق النمو. وكان هذا الإصلاح فلسفته تعتمد علي أن النمو الاقتصادي المستدام ضرورة لتعظيم الإيرادات العامة للإنفاق علي الإصلاح الاجتماعي في مرحلة لاحقة. وهو الأمر الذي لم يتحقق بشكل كامل.

أما الملاحظة السادسة فهي أن الرئيس السيسي قد بدأ فترته الرئاسية الأولي وعينه علي الإصلاح الاجتماعي والتنمية الاجتماعية أكثر من النمو والإصلاح الاقتصادي، حرصاً منه علي التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية علي الطبقة الأكثر تأثراً بالأزمة، فزاد الإنفاق العام والحكومي علي الخدمات العامة، وزاد التدخل الحكومي علي حساب الاستثمارات الخاصة والنمو الاقتصادي، وهو ما استوجب التوسع في الاستدانة الداخلية والاقتراض الخارجي، وزاد من العجز في الموازنة، ولم يتمكن من خفض معدل البطالة أو الفقر وإن حد من بعض آثاره السلبية من خلال دعم شبكات الضمان الاجتماعي والسلع الأساسية.

وأما الملاحظة السابعة فهي أننا نحتاج إلي تغيير في التوجه الاقتصادي، فيجب أن يكون هدف سياسات الإصلاح هو النمو من أجل التنمية. وبعبارة أخري التنمية الشاملة تعني النمو + التغير إلي الأفضل في التعليم والصحة وتكافؤ الفرص والخدمات العامة. والتنمية لكي تتحقق يجب أن تسبقها إصلاحات اقتصادية واجتماعية بشكل متزامن وليس بشكل متتابع. ولنأخذ تجربة الهند في النمو والتنمية بعين الاعتبار، فالهند قد بدأت خطتها الإصلاحية في نهاية الخمسينيات لمدة ثلاثة عقود متتالية حتي نهاية الثمانينيات، وكان تركيزها علي التنمية الاجتماعية كما نفعل الآن في مصر علي مدار العامين الماضيين. وعلي الرغم من سياسات التنمية ومحاولات تحسين الخدمات العامة لم تحقق الهند سوي متوسط 3.5% سنوياً كمعدل للنمو الاقتصادي علي مدار ثلاثين عاماًوكانت مظاهر الاقتصاد في ذلك الوقت زيادة السيطرة علي الاستثمارات الخاصة من قبل الحكومة، وزيادة نمو دور الحكومة والقطاع العام في الاستثمارات، والتدخل المبالغ فيه في الحد من الاستيراد دون زيادة الصادرات، ووجود مناخ غير ملائم للاستثمار الخاص. وهو ما أدي بالهند إلي تبني سياسة مختلفة اعتباراً من بداية التسعينيات تقوم علي رفع معدل النمو الاقتصادي واستخدامه للتشغيل وخفض معدلات الفقر وتحسين الخدمات الاجتماعية، ولم يتحقق ذلك إلا بحزمة سياسات إصلاحية سبقت النمو تقوم في مجملها علي تشجيع الاستثمار الصناعي والزراعي والخدمي، وخلق مناخ إيجابي للاستثمار من خلال إزالة معوقات التصنيع، وجعل الهند أكثر قدرة تنافسية عالمياً من خلال تسخير المقومات البشرية والطبيعية لديها، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، والترحيب بالاستثمار الأجنبي للإسراع بالتنمية، وتشجيع التصدير، وخلق قيمة مضافة للاقتصاد الهندي بهدف رفع معدلات التشغيل والحد من معدلات الفقر الرهيبة وإرساء مجتمع أكثر إنسانية وتحضراً، واستفادت من جودة التعليم، والكفاءة المرتفعة نسبياً لمؤسساتها الحكومية.

والآن لدي الهند أكبر معدل للنمو في العالم (8% تقريباً)، أكثر من الصين، وأكبر معدلات في تحسين مستويات الخدمات العامة والتنمية الاجتماعية. هذا هو ما نحتاجه بالضبط في مصر الآن. والبداية هي وضع سياسات إصلاحية واضحة للجميع تستهدف التنمية الشاملة. هذه السياسات حتي الآن غير واضحة، وهذا هو سبب الانزعاج، فالغموض وعدم الثقة في برنامج الإصلاح يؤدي إلي التشاؤم... ولكننا لا نزال قادرين علي وضع خطة إصلاح متكاملة وتنفيذها، وقد بدأت تظهر بعض ملامحها في الأسابيع الماضية وهذا هو سبب التفاؤل. النمو الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي هما مساران متلازمان، فالنمو الاقتصادي شرط للتنمية الاجتماعية وتحسين حالة المواطن المصري، والإصلاح الاجتماعي شرط لاستمرار النمو وتحقيق الاستقرار السياسي. اللينك

استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

الخميس، 22 سبتمبر 2016

خطيئة التراجع في منتصف الطريق

جريدة الاخبار - 22/9/2016


هناك  سؤال محير؛ لماذا لم تحقق مصر نهضتها الاقتصادية كما حدث في دول كثيرة مثل كوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل وتركيا، رغم أن مصر كانت قد بدأت خططها الإصلاحية قبل جميع هذه الدول؟! بمراجعة تاريخ مصر الحديث منذ بدايات محاولات الإصلاح بعد حرب أكتوبر فإنها جميعاً كانت محاولات إصلاح غير مكتملة، فنحن دائماً نبدأ طريق الإصلاح بخطوات متسارعة أو مرتبكة أحياناً ثم نتوقف فجأة لأسباب اجتماعية أو سياسية أو إدارية، في أول الطريق أو في منتصفه أحياناً، ودون أن نستكمل مسيرة الإصلاح. وفي كل مرة نبدأ من جديد من نقطة الصفر في مناخ أكثر صعوبة وظروف أكثر قسوة، فكانت النتيجة التراجع المستمر علي مدار عقود طويلة.


وكانت أولي خطوات الإصلاح الاقتصادي المبتسرة قد بدأت مع الرئيس السادات عام 1974، وهو ما سمي بالانفتاح الاقتصادي بعد فترة طويلة من الانغلاق، حيث كان الاقتصاد المصري قد بدأ في التهاوي بعد التأميم عام 1961، ودخول مصر حروب اليمن وحربي 67 و73. ومنذ عام 1961 وحتي عام 1970 لم تؤسس سوي ثلاث شركات مساهمة خاصة!! وكان عام 1974 المحاولة الأولي لتشجيع الاستثمار الخاص - وبخاصة الأجنبي - وكانت التجربة غير مكتملة، حيث لم تحدد هوية الاقتصاد المصري ولا هوية الإصلاح ولا ضوابطه، فلم تتحقق معه التنمية المتكاملة، ولم تُحدث آثار إيجابية علي مسيرة التنمية.

وكانت المحاولة الثانية للإصلاح الاقتصادي في عهد الرئيس السادات أيضاً عام 1977، وكانت هذه المحاولة الإصلاحية تتصل بما يسمي بالإصلاح الهيكلي للاقتصاد من خلال زيادة الإيرادات العامة وتخفيض الإنفاق العام، وترشيد الدعم العيني، فتم تحريك أسعار بعض السلع الأساسية كالأرز والسكر والخبز، وارتفعت بعض الأسعار قرشاً أو قرشين، وكانت المحصلة هي انتفاضة 18 و19 يناير 1977، والتي أدت إلي مظاهرات دموية عارمة في عدد من محافظات مصر. وإزاء ضغط هذه الانتفاضة الشعبية - التي أسماها السادات في ذلك الوقت "انتفاضة حرامية" - توقفت عملية الإصلاح الهيكلي تماماً، وتراجعت الحكومة في ذلك الوقت عن برنامجها الإصلاحي. وكانت النتيجة السياسية لهذه التجربة الفاشلة أكثر من مروعة، حيث شعر الرئيس السادات بأن التيار الناصري واليساريين هم من فجروا هذه الانتفاضة ويعملون ضده. ومحاولة منه للقضاء عليهم فتح الباب علي مصراعيه للتيارات الدينية المتشددة، وعودة الإخوان للحياة السياسية، والجميع يعلم نهاية هذا المشهد الدرامي السياسي يوم 6 أكتوبر عام 1981 والذي انتهي باغتيال الرئيس السادات علي أيدي الجماعات المتطرفة التي سمح لها بالانتشار أولاً في الجامعات.

وفي بدايات عهد الرئيس مبارك كان التركيز علي مشروعات البنية التحتية واستكمال المدن الجديدة، من خلال الاقتراض الداخلي والخارجي علي حساب الإصلاح الهيكلي للاقتصاد المصري، وعلي حساب برامج العدالة الاجتماعية. وكانت المحاولة الإصلاحية الأولي في عهده في ظل حكومة الدكتور/ عاطف صدقي بنهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، فكانت هناك محاولات لإصلاح شركات قطاع الأعمال العام، والمنظومة الضريبية، وصدور قانون استثمار جديد... وتوقف كل ذلك بعد حرب الخليج الأولي، وإعفاء مصر من ديونها الخارجية، وتوقف برنامج الإصلاح الاقتصادي. ودخلنا عهد "توشكي" ومشروع "البتلو" في منتصف التسعينيات!! فعدنا إلي نقطة الصفر بنهاية التسعينيات، وتعرضت مصر لأزمة اقتصادية طاحنة وكساد اقتصادي، ومن بين مؤشراته تعثر لأكثر من 50% من البنوك المصرية.

وكان لهذا الوضع الاقتصادي المتردي علي مدار السنوات منذ عام 1961 وحتي 2004 آثاره المدمرة علي التنمية الاجتماعية، وساهم في سوء حالة التعليم والمؤسسات الحكومية وخدمات الصحة وشبكات التضامن الاجتماعي وزيادة معدلات الفقر... وفي عام 2004 بدأت حكومة الدكتور/ نظيف خطة إصلاح اقتصادي واضحة واستمرت خطوات الإصلاح لمدة أربع سنوات متتالية منذ عام 2004 إلي عام 2008، وبدأ التراجع بعد هذا التاريخ، وبدأت الحكومة في التفتت وتنازعتها اتجاهات عدة، ولم يصاحب النمو الاقتصادي تنمية اجتماعية بذات القدر، فتضاعفت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وظهرت علاقة عكسية غريبة بين معدل النمو ومعدل الرضا لدي المصريين بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فأظهرت دراسة أعدها معهد "جالوب" الأمريكي العلاقة العكسية بين معدل النمو الاقتصادي ومعدل الرضا لدي المصريين خلال الفترة من 2005 إلي 2010، فكلما ارتفع معدل النمو الاقتصادي زاد السخط والغضب عند القاعدة الأكبر من المصريين، حتي وصل هذا الغضب مداه في ديسمبر عام 2010. والمبرر الوحيد المقبول لذلك هو أن عائد النمو لم يتم توزيعه بشكل عادل علي جموع المصريين، فالتوزيع العادل لناتج النمو الاقتصادي لا يتحقق إلا من خلال شبكة خدمات عامة جيدة وبرنامج ضمان اجتماعي في غاية القوة في ظل إجراءات الإصلاح الاقتصادي، وإلا انحصرت آثاره الإيجابية في قمة الهرم، وزادت الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين طبقات المجتمع، وهو ما حدث خلال الفترة من 2004 إلي 2010. وعدنا مرة أخري إلي بداية الطريق أو نقطة الصفر. وكانت هناك بعض المحاولات في بداية عهد الرئيس السيسي عام 2014 للإصلاح الهيكلي وإصلاح السياسات المالية والنقدية بدأت بالرفع الجزئي لأسعار الطاقة، وتوقفت المحاولة في بدايتها، وتسارعت معدلات التضخم والبطالة، فكان القدر المحتوم الآن لإعادة محاولة الإصلاح الاقتصادي، فليس هناك بديل آخر. الدرس المستفاد الوحيد علي مدار الخمسين عاماً الماضية هو أن التراجع عن تنفيذ خطط الإصلاح الاقتصادي في منتصف طريق الإصلاح لأسباب أمنية أو لخشية ثورة اجتماعية أو قلق سياسي أو غيره لم يعد مقبولاً، فمساوئ التراجع عن مسيرة الإصلاح الاقتصادي حتي تحقق أهدافها أخطر بكثير من الاستمرار حتي نهاية المسار وتحقيق الهدف، فهذا ما فعلته تركيا والصين والبرازيل والهند وسنغافورة ودول شرق أوروبا وماليزيا وإندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية، بفيتنام وبنجلاديش ورواندا!! الدواعي الأمنية ومتطلبات تحقيق السلم والأمن الاجتماعي تقتضي الاستمرار في طريق الإصلاح الاقتصادي حتي نهايته وليس العكس... الإصلاح الاقتصادي شرط ضروري لتحقيق العدالة الاجتماعية، ولا يوجد بينهما تضاد... هل يسمعني أحد؟! اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

الخميس، 1 سبتمبر 2016

البكيني والبوركيني.. الكل في التطرف الفكري سواء!!

جريدة الاخبار - 1/9/2016


شاهدت أهالي عمان وعرب وهنود وأوروبيين، شاهدت سيدات يرتدين النقاب والحجاب يباشرن رياضة المشي بمفردهن، وشاهدت سيدات يركضن بملابس رياضية، وشاهدت نساء يسبحن بالبوركيني وأخريات بالبكيني 


عدت  بالأمس من رحلة عمل قصيرة من مسقط في سلطنة عمان حيث كنت عضواً بهيئة تحكيم لنظر نزاع بين شركات وهيئات عُمانية. وبعد أن انتهينا من جلسة طويلة تبارز فيها المحامون وتقارعوا بكافة الحجج القانونية والإجرائية، عاد أعضاء هيئة التحكيم إلي الفندق الذي نقيم فيه بمسقط، ويقع مباشرةً علي البحر، فاقترح أحد زملائي من أعضاء هيئة التحكيم أن نتبادل الأفكار في الشئون العامة أثناء التريض علي الشاطئ المواجه للفندق، فوافقنا وبدأنا رحلة التريض ومناقشة الفكر بالفكر فيما بيننا.

 وأثناء المشي لفتت انتباهي ظواهر عدة أسعدتني بل أبهجتني. أما الظاهرة الأولي، فكانت اكتظاظ الشاطئ بالبشر من كل الجنسيات من يلعب الكرة من الشباب، ورجال ونساء يركضون، وآخرون يهرولون، وآخرون في المياه، وأمهات وأسر بصحبة أبنائهم. وعلي الرغم من أن الشاطئ أمام الفندق، إلا أن الشاطئ مفتوح للجميع، فهناك ممر لنزلاء الفندق إلا أن الشاطئ الممتد لأكثر من 2 كيلومتر علي الأقل مفتوح لكل الجنسيات والأعمار، ولا فارق بين مقيم بالفندق وغير مقيم، لا فارق بين غني وفقير فالكل سواء في الحق في العوم والمشي والتنزه والركض، لا تُفرض رسوم علي أحد ولا قيود علي أحد. وفي الواقع هذه الظاهرة واحدة من مظاهر التحضر الأساسية، وأعدها واحدة من أهم مظاهر العدالة الاجتماعية!

 فممارسة الرياضة والبهجة حق للجميع وجزء لا يتجزأ من حقوق المواطنة. لا توجد مبانٍ تحجب الرؤية، ولا متاريس علي الرغم من أن كافة السفارات الأجنبية وبيوت السفراء تطل علي الشاطئ، ولا توجد رسوم دخول، ولا توجد إشغالات، ولا توجد قهاوي ونوادي تمنع الجمهور، بل توجد أماكن لانتظار السيارات ومداخل متعددة، وملاعب خضراء علي مدي الشاطئ مفتوحة للجميع، فالرياضة والمحافظة علي الصحة بدون فلوس!

 وللأسف الشديد وأنا أسير علي الشاطئ تداعبنا الأمواج الدافئة برفق تذكرت ما آلت إليه شواطئنا، ولا أتحدث عن الساحل الشمالي وما أدراك ما الساحل الشمالي!! ولكن أتحدث عن شواطئ الإسكندرية والسويس والبحر الأحمر والإسماعيلية وبورسعيد، متاريس ونوادي ونقابات ونفايات وأسوار تحجب الرؤية والجمال، قيود علي البسطاء والفقراء والشباب من مباشرة أبسط حقوقهم في الاستمتاع بالطبيعة، في ممارسة الرياضة، في العوم، حرمان الأطفال من التنزه والعوم بصحبة أهاليهم... شيء محزن، النيل نعيش علي بعد خطوات منه ونسير بجواره كل يوم ونراه بصعوبة... أما آن الأوان لإعادة النظر في هذه السياسات، لو كنا جادين في العدالة الاجتماعية، لو كنا جادين في إقرار أبسط الحقوق لكافة المواطنين؟! إذا كنا جادين في منح الجميع التكافؤ في أبسط الحقوق، فلنعالج هذا الاعوجاج فوراً ولنتعظ بدول العالم حولنا، ولتكن سلطنة عمان نموذجاً لنا!!!

وأما الظاهرة الثانية، التي أعجبتني، بل أبهرتني، هي المزج بين كل الفئات العمرية والطبقات المهنية، والأجناس، والجنسيات، الكل متوائم والكل منسجم، والكل في حاله متقبلاً للآخر، شاهدت أهالي عمان وعرب وهنود وأوروبيين وكل الجنسيات، شاهدت سيدات يرتدين النقاب والحجاب يباشرن رياضة المشي بمفردهن، وشاهدت سيدات يركضن بملابس رياضية، وشاهدت نساء يسبحن بالبوركيني وأخريات بالبكيني، ولا أحد ينظر إلي أحد، ولا أحد يصدر أحكاماً مسبقة علي أحد كما يحدث في مصر، وكما يحدث الآن في فرنسا! حالة من السلام والأمان الاجتماعي، حالة من التعايش السلمي. لا يحكم أحد علي أحد من الغلاف.

 تذكرت ونحن نسير والشمس علي وشك الغروب ما نعيشه في مصر منذ أواخر السبعينيات أنتِ غير محجبة، فأنتِ إما مسيحية أو مسلمة غير ملتزمة دينياً!؟ أنتِ محجبة فإما أنك متزمتة دينياً، وإما أنكِ منافقة اجتماعياً!! أحكام يصدرها مجتمعنا علي بعضه البعض من خلال المظهر لا الجوهر... للأسف الشديد صار التعصب متجذراً في عقول وقلوب المصريين مسلميهم ومسيحيهم علي حد سواء، وصار كثير من الوسطيين في مصر من مسلمين ومسيحيين يشعرون بالاغتراب داخل الوطن.

 آمل أن يكون إصدار قانون بناء الكنائس خطوة علي الطريق الصحيح، وأن تتحمل الأجهزة الحكومية والأمنية مسئوليتها أمام الوطن... بالمناسبة ثقافة التسامح واحترام الآخر، وقبول الاختلاف، واحترام الحوار، ومواجهة الفكر بالفكر كلها أمور نفتقدها، والتعليم الأساسي نقطة البدء في إعادة بناء هذه الثقافات... التعليم الجيد والسلام الاجتماعي داخل الوطن وجهان لعملة واحدة... هل يسمعني أحد!! اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك


الخميس، 25 أغسطس 2016

هل يسمعني أحد؟!

جريدة الاخبار - 25/8/2016

في هذا المكان، وتحديداً في 21/7/2014 - أي منذ أكثر من عامين - كتبت حرفياً: "أن عملية الإصلاح عملية مركبة وشديدة التعقيد، ولها تشابكات سياسية واجتماعية، وتقتضي التنسيق والتعاون التام بين كافة مؤسسات الدولة... وأن مجهودات الإصلاح ستذهب في مهب الريح لو استمرت المؤسسات الحكومية كل منها يعمل في جزر منعزلة دون خطة عمل واضحة المعالم ومسئوليات محددة وتنسيق كامل بين كافة أجهزة الدولة بدلاً من تصارعها وإفشالها لبعضها البعض، فعلي رئيس الحكومة العمل علي توفير مكتب فني محترف دوره المتابعة لخطة الإصلاح وضمان التنسيق الرأسي بين صانع القرار والجهات التنفيذية، إلي جانب التنسيق الأفقي بين الجهات الحكومية المختلفة". وبعد مضي أكثر من عامين لايزال هذا المكتب الفني غائباً، ولايزال التنسيق بين أجهزة الدولة ومتابعة برنامج الإصلاح مفقوداً، فأما آن الأوان لندرك خطورة الموقف وأهمية ما نقول قبل فوات الأوان؟



وفي 23/10/2014، كتبت ما نصه أنه: "يسيطر علي تفكير كثير من المسئولين فرض حلول أمنية لمشكلات هي في المقام الأول بعيدة كل البعد عن قدرة الشرطة، ويجب ألا يسند عبء حلها إلي وزارة الداخلية... من الخطأ الجسيم أن يلقي تبعة فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية علي عاتق الشرطة، فهذا ليس من مهامها. وقد أدي استنزاف الداخلية في مهام ليست منوطة بها أصلاً إلي إرهاق الشرطة وسوء حالة الأمن العام إلي حد بعيد".




تذكرت الآن هذه الكلمات بعد حوالي عامين تقريباً ونحن نتعامل مع أزمة الدولار، فتم إغلاق أكثر من 54 شركة صرافة، وصعدنا من الإجراءات البوليسية لمواجهة أزمة اقتصادية في المقام الأول. إن الإجراءات البوليسية وإغلاق شركات الصرافة يساهم في انتشار السوق الموازية، فالسوق الموازية خارج سوق الصرافة، وأعتقد أن قرارات الإغلاق جاءت علي الطبطاب لتجار العملة. إن السوق الموازية الآن خارج مصر في دول الخليج تحديداً، والجميع يبيع ويشتري خارج القطاع المصرفي لندرة العملة... فلا الإغلاق هو الحل ولا الإجراءات البوليسية ستخفف من المشكلة، ولا تغليظ العقوبة إلي الإعدام - علي النحو الذي تمناه بعض المسئولين - سيخفف من غلواء المشكلة، يجب ألاـ نرتكن إلي الشرطة لكي تحل لنا مشاكل السياسة النقدية وسوء إدارة الأزمة الاقتصادية... بالمناسبة أزمة السجاير الآن من صنع الحكومة بنسبة 100%، ولن تحلها الشرطة.




وفي 27/11/2014 عدت لأكرر بأننا: "لو لم نبدأ عملية إصلاح مؤسسي حقيقية داخل الجهاز الحكومي، ونعدل نصوص القانون الجنائي المستمدة من قانون جوزيف تيتو من عهد يوغوسلافيا الشيوعية؛ فستذهب كل جهود الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي هباءً، وستستمر الأيادي المرتعشة مرتعشة". ولم نفعل شيئا حتي هذه اللحظة، ولايزال الجهاز الحكومي والإداري المعوق الرئيسي للإصلاح في هذه البلاد.




وفي 30/4/2015 -أي منذ أكثر من عام ونصف تقريباً -تساءلت لماذا ألغت الحكومة نظام المناطق الحرة الخاصة، وكتبت حينها: "فجأة وبدون أية مقدمات وبدون أية مناقشات مع أصحاب الشأن، ألغت الحكومة المناطق الحرة الخاصة، وهي استثمارات تجاوزت ثلاثين مليار جنيه علي الأقل، وحصيلة رسومها لا تقل عن حصيلة الضرائب التي تسددها المصانع المثيلة بنظام الاستثمار الداخلي، ويتعرض أصحاب هذه المصانع الآن لتحرش غير مسبوق من الجمارك... رغم أن تراخيصها لاتزال سارية. إن وزارة المالية كانت الضاغط الأساسي لإلغاء هذه المناطق وللأسف رضخت وزارة الاستثمار لهذه الضغوط دون دراسة وافية بدعوي أن بعض المناطق الخاصة تلجأ إلي ممارسات ضارة. والحقيقة أن التهرب الجمركي ليس في هذه المناطق، فهي جميعها تحتوي علي استثمارات أجنبية ومصرية وتخضع لرقابة محكمة... ارحمونا... إذا كانت هناك بعض المخالفات فلا يعني هذا القضاء علي صناعات واستثمارات بالمليارات وتشريد عمال بالآلاف في غمضة عين". والآن وبعد مضي عام ونصف تدرس وزارة الاستثمار ضرورة إعادة العمل بنظام المناطق الحرة الخاصة... ما كان من الأول!!




وفي نفس التاريخ قلت إنني أؤيد تطبيق ضريبة القيمة المضافة، ولكني قلت أيضاً:"إنني لست مطمئناً لاستعداد مصلحة الضرائب ولا أعتقد أن لديها حالياً الكفاءات والبنية الأساسية اللازمة لتطبق هذه الضريبة بشكل كفء ودون إرباك للاستثمار والمستهلكين". وبعد مضي عام ونصف ونحن مقبلون علي تطبيق ضريبة القيمة المضافة أعتقد أننا أضعنا عاماً ونصف العام دون أن نستعد جدياً لتطبيق الضريبة، وقناعتي أننا لو لم نؤهل القائمين علي التطبيق بالتدريب والبيئة الفنية؛ فإن الحصيلة لن تزيد عن 10 مليارات جنيه، ناهيك عن الإرباك والارتباك الذي ستحدثه في الأسواق وفي مناخ الاستثمار... اللهم إني قد بلغت... اللهم فاشهد.




وفي 21/5/2015 حذرت من أن إلغاء المزايا الضريبية في قانون المناطق الاقتصادية سيكون له أثر سلبي علي تنمية المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، وسترفع من تحديات الاستثمار فيها، وتساءلت: "لماذا تم إلغاء المزايا الضريبية رغم أن المزايا الضريبية تطبق علي المناطق الصناعية الخاصة في روسيا (13%) وتركيا (15%) وماليزيا (10%) - وهو سعر الضريبة الذي كان قائماً في ظل القانون المصري قبل تعديله من حكومتنا السنية - وكوريا الجنوبية (10%) وإندونيسيا (10%) والعقبة في الأردن (5%)... هل نتوقع بعد ذلك النجاح في هذا الأمر؟". وبعد عام ونصف يشكو رئيس الهيئة الجديد د. أحمد درويش إلي الجميع من أن انعدام المزايا الضريبية من المعوقات الأساسية لترويج الاستثمار في المنطقة... للأسف لم يسمعنا أحد!!




ما سبق بعض الأمثلة علي ما نكتب ويكتبه غيري، ولم يهتم أحد من المسئولين بما نكتب. وأحياناً أسأل نفسي: هل يسمعني أحد؟ هل يقرأ أحد؟ هل هناك جدوي مما أكتب ويكتبه غيري؟ هل أستمر في الكتابة أم يكفي إلي هذا الحد؟ هل نحن نؤذن في مالطة؟ هل يُنظر إلي كل ما نكتب علي أنه كلام فارغ أو أنه كلام نظري؟ هل يأخذنا أحد من المسئولين بشكل جدي؟ هل النقد الموضوعي يقدره أحد؟




الإجابة علي هذه الأسئلة: لا يهم... سأستمر في الكتابة أنا وغيري، فلايزال الأمل قائماً في غد أفضل مهما كانت تحديات الحاضر، ولن أتوقف طالما القلب ينبض، فمصر الآن في مفترق الطرق، فلا يمكن لها أن تسعي في السير بذات الخطي البطيئة. ولازلت علي قناعة لا تلين أن المستقبل القريب أفضل وأكثر إشراقاً، وأحاول من خلال هذه الكتابات أن أسهم بأي قدر كان في كشف معالم الطريق للمستقبل حتي ولو لم يهتم أحد من أعضاء الحكومة... لا يهم!! اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

الخميس، 18 أغسطس 2016

البرلمان ومحكمة النقض وفقه سيد قراره!!

جريدة الاخبار - 18/8/2016

هناك  لوغاريتمات في حياتنا البرلمانية والسياسية لا أفهمها ولا أستوعب دوافعها، هنا أتحدث عن عدم تنفيذ مجلس النواب لأحكام محكمة النقض المصرية ببطلان عضوية بعض أعضائه، وتصعيد مرشحين آخرين نتيجة وجود أخطاء مادية في عملية احتساب الأصوات. وهو ما حدث بالنسبة للانتخابات البرلمانية في دائرتي الدقي وحلوان.


وأضرب مثالاً بما حدث مع د/ عمرو الشوبكي المرشح عن دائرة 11 بالدقي والعجوزة، حيث تقدم بطعن علي نتيجة الانتخابات البرلمانية أمام محكمة النقض، وقضت محكمة النقض في منتصف يوليو الماضي ببطلان عضوية منافسه وأحقية الشوبكي بمقعد دائرة العجوزة والدقي. وجاء الحكم نتيجة عملية إعادة فرز الأصوات من خلال الدائرة المختصة بمحكمة النقض، وقام مستشارو محكمة النقض بإعادة فرز الأصوات بأنفسهم في حضور ممثلي الطاعن والمطعون ضده، وانتهي الفرز إلي وجود أخطاء مادية في الفرز الأصلي، وأن عمرو الشوبكي حصل بعد إعادة الفرز علي أغلبية الأصوات، وأنه كان يتعين إعلانه فائزاً في الانتخابات الأصلية.

وفي هذا الخصوص اسمحوا لي أن أردد ما جاء علي لسان محكمتنا العليا حيث قالت محكمة النقض أنه: »لما كان الثابت بالأوراق والتحقيقات التي أجرتها المحكمة، ومن إعادة فرز الأصوات التي حصل عليها كل من الطاعن والمطعون ضده الثاني في حضور وكيليهما، توصلاً لحقيقة الأصوات الصحيحة والباطلة وإعادة تجميعها في جميع اللجان الفرعية التابعة للدائرة العامة الحادية عشرة قسم شرطة الدقي والعجوزة، تبين أن ما حصل عليه الطاعن عدد 21898 صوتاً... وما حصل عليه المطعون ضده عدد 21597 صوتاً، وإذ أعلنت اللجنة العليا للانتخابات فوز المطعون ضده الثاني رغم حصوله علي أصوات أقل من تلك التي حصل عليها الطاعن بعدد 301 صوت، فإن قرارها يضحي باطلاً حابط الأثر وواجب الإلغاء مع تصحيح المخالفات الناتجة عن الخطأ في احتساب الأصوات عند إعلان النتيجة النهائية، فإن المحكمة تتولي هذا التصحيح وتقضي بصحة عضوية الطاعن علي النحو الوارد بالمنطوق».

وأضافت المحكمة في صلب المنطوق قرارها: »بإلغاء قرار اللجنة العليا للانتخابات رقم 107 لسنة 2015... فيما تضمنه من إعلان فوز المطعون ضده الثاني... والقضاء بعدم صحة عضويته بمجلس النواب للمقعد الفردي... وبصحة عضوية الطاعن... بمجلس النواب...».

هذا ما قررته محكمة النقض المصرية بالنسبة لدائرتي الدقي والعجوزة، وكذلك دائرة حلوان. وهو حكم نهائي بات واجب النفاذ غير قابل للطعن عليه. وهذا هو ما نص عليه الدستور المصري في المادة (107) حيث ينص الدستور علي أن: »تختص محكمة النقض بالفصل في صحة عضوية مجلس النواب... وفي حالة الحكم ببطلان العضوية تبطل من تاريخ إبلاغ المجلس بالحكم».

وأثار البعض تساؤلاً: هل يجوز لمحكمة النقض بعد أن تقضي ببطلان عضوية أحد الأعضاء المنتخبين أن تحكم بصحة عضوية منافسه وتصعيده إلي البرلمان؟ أم أن حكم البطلان أو عدم صحة العضوية يقتضي إعادة الانتخاب مرة أخري في الدائرة المعنية؟... والحقيقة أن القانون رقم 24 لسنة 2012 بشأن إجراءات الطعن أمام محكمة النقض في صحة عضوية أعضاء البرلمان قد أجاب علي هذا التساؤل بشكل واضح وحاسم لا لبس فيه، حيث جاء في نص المادة (12) من القانون المذكور أنه: »إذا أُبطل الانتخاب في دائرة من الدوائر أجري انتخاب جديد لتلك الدائرة وفقاً لأحكام قانون مباشرة الحقوق السياسية، علي أنه إذا كان من الممكن تصحيح المخالفات الناتجة عن وجود خطأ مادي في احتساب الأصوات عند إعلان النتيجة النهائية أو بيان وجه الحقيقة في نتيجة الانتخابات تولت المحكمة هذا العمل وتقضي بصحة من تري أن انتخابه هو الصحيح وتبلغ المجلس بحكمها».وهذا ما فعلته محكمة النقض المصرية بحذافيره.

وكان من المتوقع بعد ثورتين ونصوص دستورية وقانونية واضحة وقاطعة، وحكم قضائي صادر عن قمة القضاء في مصر؛ أن يقوم مجلس النواب بتنفيذ أحكام الدستور والقانون وأحكام القضاء. ولكن الذي حدث أن اللجنة الدستورية والتشريعية بمجلس النواب اكتفت حتي الان بتنفيذ الشق الأول من الحكم وهو إقرار بطلان صحة عضوية نائبي دائرة الدقي والعجوزة ودائرة حلوان، ولم تنفذ الشق الثاني من الحكم وهو صحة عضوية المنافسين وتصعيدهم إلي البرلمان. وقد قرأت تصريحاً بالصحف منسوباً إلي رئيس الأمانة الفنية للجنة الشئون الدستورية يقول فيه: »أن العقبة التي تواجه الأمانة الفنية للجنة تتمثل في حالة قبول الحكم ببطلان العضوية... فيمن سيتم تصعيده بدلاً منه». يا الله... هل يعقل هذا؟... هل من المقبول التسويف في تنفيذ أحكام قضاء محكمة النقض والقوانين والدستور؟... إن إهدار أحكام قضاء النقض ونصوص الدستور من قبل مجلس النواب خطأ لن يغفره التاريخ لأعضاء اللجنة الدستورية والتشريعية. إن دولة القانون تبدأ بإنفاذ أحكام القضاء، والأولي بتنفيذها هو السلطة التشريعية. إن النصوص الدستورية والقانونية من ناحية، وأحكام محكمتنا العليا من ناحية أخري؛ هما ضفتا نهر العدالة.

 فإذا انهارت إحدي الضفتين تحول نهر العدالة إلي مستنقعات من الظلم والقهر. وعلي اللجنة الدستورية والتشريعية بالبرلمان أن تكون الحارس علي عدم انهيار أي من الضفتين لا هادمة.. إن النصوص القانونية التي يشير إليها السيد مقرر اللجنة الدستورية والتشريعية في لائحة المجلس وقانون النواب لا علاقة لهما بحكم محكمة النقض، ولا يؤثران علي تنفيذ حكم المحكمة لا من قريب ولا من بعيد. إن القضية أكبر بكثير من عضو أو عضوين بالبرلمان.

 إن القضية هي إرساء دولة القانون... إن التعلل بوجود نصوص قانونية في قانون مجلس النواب ولائحته -وهو أمر غير صحيح ولم نجد له سنداً -تتعارض مع نصوص الدستور وحكم محكمة النقض؛ أمر لا يليق بسلطتنا التشريعية... مجلس النواب سيد قراره باحترام الدستور والقانون وأحكام القضاء، وليس بأي شيء آخر. اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك


الخميس، 11 أغسطس 2016

الصندوق والشركات الحكومية

جريدة الاخبار - 11/8/2016


سؤالان مهمان مطروحان علي المائدة هذا الأسبوع؛ السؤال الأول: هل تؤيد استمرار الحكومة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي لاقتراض 12 مليار دولار أمريكي؟ وهل يصب هذا القرض في مصلحة المصريين أم أنه سيكون وبالاً علينا جميعاً؟


صندوق النقد والمؤسسات المالية الدولية عموماً لا تخلو من البيروقراطية، ولا شك تتأثر سياساتها برغبات الدول الرئيسية، وأحياناً كثيرة ما يقترحه خبراء الصندوق من روشتات إصلاحية علي الدول النامية يتجاهل الأبعاد الاجتماعية والسياسية لهذه الدول. والأخطر من هذا أو ذاك أن أي خطأ في برنامج الإصلاح الاقتصادي وأي ثمن لهذه الأخطاء سواء كانت اجتماعية أو سياسية لا يتحملها الصندوق أو صاحب الاقتراح، بل يدفع الثمن الشعب، وتتحمل الحكومة مغبة الفشل. وفوق هذا وذاك لو أن الحكومة لم تلتزم بتنفيذ برنامج الإصلاح بحذافيره أو تلكأت فيه؛ فإن التقرير الدوري للصندوق لن يرحمها، وفشل برنامج الإصلاح يعني التجريس دولياً بسمعة البلد، وتوقف كافة الاستثمارات الدولية والصناديق والمؤسسات المالية مع مصر.

في ظل هذه المعطيات لا شك أن الابتعاد عن فلوس الصندوق أفضل وأسلم لمصلحة مصر والمصريين، والأولي أن يكون برنامج الإصلاح الاقتصادي مصرياً بنسبة 100%. ولهذه الأسباب سبق لمصر في التسعينيات أن أوقفت إجراءات الاقتراض من الصندوق، ولهذه الأسباب أيضاً رفضت الحكومة المصرية بعد 2011 مرتين الاستمرار في إجراءات الاقتراض رغم أنه قد كان قد تم الاتفاق علي كافة التفاصيل، وكان الاتفاق في سبيله للعرض علي مجلس إدارة الصندوق، إلا أن الحكومة تراجعت في اللحظات الأخيرة. ولهذه الأسباب المشار إليها أيضاً رفضت حكومات عديدة الاعتماد علي الصندوق في تنفيذ برنامجها الإصلاحي، ومن هذه الدول الحكومة الماليزية، إذ رفض مهاتير محمد بعد مفاوضات مضنية في بداية الثمانينات الاقتراض من صندوق النقد الدولي. وخلاصة هذا الكلام أنه لا يجب الاقتراض من صندوق النقد إلا إذا أعيتنا الحيلة، وكنا في حالة الضرورة. وللأسف الشديد نحن الآن في حالة ضرورة، والوضع الاقتصادي في مصر في حالة خطر.

وأوافق علي الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وأوافق علي أن تقوم الحكومة بالتزامن مع ذلك بإصدار سندات دولارية، وذلك كله مشروط بتطبيق برنامج إصلاحي بجد وليست علي طريقة الفنكوش الذي أصدرت بها الحكومة برنامجها 20-30 أمام البرلمان. مصر تواجه أزمة اقتصادية خطيرة غير مسبوقة في تاريخها الحديث كله، وقد بلغ معدل العجز في الموازنة أكبر نسبة له في تاريخ مصر الحديثة، وانخفض الاحتياطي بالنقد الأجنبي إلي أقل معدلاته بحيث لم تعد تكفي السيولة النقدية المتاحة بالنقد الأجنبي لمواجهة أكثر من شهرين ونصف لتغطية احتياجات مصر من السلع الأساسية. ولذلك فإن الاقتصاد المصري في حاجة إلي جرعة أكسجين عاجلة -أو قل قبلة للحياة -من أجل الاستمرار وتفعيل البرنامج الإصلاحي، فالتوقف عن سداد الديون الخارجية أو العجز عن استيراد السلع الأساسية ينذر بوصول معدلات التضخم وارتفاع الأسعار إلي معدلات غير مسبوقة، كما حدث من قبل في تركيا والأرجنتين واليونان -وتلقت هذه الأخيرة دعماً من أوروبا غير متاح لمصر. ولذلك وجب ضخ نقد أجنبي عاجل لمواجهة الالتزامات الحالية ودعم الاحتياطي بالنقد الأجنبي، والأهم من ذلك منح قدر من السيولة والمرونة للبنك المركزي لدعم سياساته النقدية وتحقيق الاستقرار في أسعار السلع الأساسية. وهذا القرض والسندات الدولارية المزمع أن تصدرها الحكومة تتيح في حدود5 مليارات إلي 6 مليارات دولار عاجلة خلال الشهور القليلة القادمة لإجراء عملية إنقاذ سريعة.

وليكن معلوماً أنه إذا لم يكن ذلك مصحوباً بتنفيذ برنامج إصلاحي اقتصادي جذري وحقيقي لخفض العجز في الموازنة، وتقليل فجوة الدين، وتشجيع الاستثمارات، والإصلاح المؤسسي للجهاز الحكومي؛ فلا أمل، وستكون الكارثة هي المصير المحتوم.هذا القرض ينطبق عليه المثل الشعبي القائل "مكرهٌ أخاك لا بطل"، ويجب التعامل معه علي أنه مجرد إسعافات أولية لإنقاذ الاقتصاد، فإذا لم يصاحب هذه الإسعافات الأولية عملية جراحية وعلاج حرفي جيد فسيموت المريض لا محالة.

ويضاف إلي ما تقدم، أن قرض الصندوق والسندات الدولارية في إطار برنامج إصلاحي منضبط ببرنامج زمني واضح بخطة محددة لمعالجة الآثار الاجتماعية وعدم الإضرار بالفئات المطحونة من الشعب المصري؛ سيزيل الغموض بشأن مستقبل الاقتصاد المصري، وسيكون له أثر إيجابي علي عودة الاستثمار الصناعي والتشغيل، وهذا هو بيت القصيد.

أما السؤال الثاني فيتعلق بخطة الحكومة لطرح حصة من أسهمها في الشركات المملوكة لها في البورصة. وطبقاً لما هو متاح لي من معلومات؛ فالحكومة تسعي لقيد بعض شركاتها في البورصة، وهي علي وجه التحديد بنك القاهرة وبعض شركات البترول. أما قطاع الكهرباء فسيقتصر الطرح علي مشروعات محطات الكهرباء التي تقوم ببنائها شركة سيمنز الألمانية مع عدد من الشركات المصرية. ووفقاً لما هو متاح لي أيضاً من معلومات فإن الأغلبية لرأس المال في هذه الشركات المطروحة سيظل مع الدولة، بحيث لن تزيد نسبة المطروح للملكية الخاصة عن 45%. وكما أفهم أيضاً لا توجد نية الآن في طرح شركات قطاع الأعمال العام الأخري.

هل يجب أن نؤيد هذا الطرح أم علينا أن نعارضه؟ والسؤال البديهي: ما هي الفوائد المرجوة من هذا الطرح؟ في رأيي أن دوافع هذا الطرح متعددة؛ أولها: أنه وسيلة لضخ استثمارات جديدة في رؤوس أموال هذه المشروعات لزيادة إنتاجيتها، ودعم أنشطتها، ورفع ربحيتها. ومن ناحية ثانية: فإن قيد عدد من الشركات العامة في البورصة من شأنه رفع درجة الإفصاح والشفافية والحوكمة في إدارة هذه المشروعات العامة. ومن ناحية ثالثة: فإن من إيجابيات هذا التوجه تنشيط البورصة المصرية وبخاصة ما نسميه بالسوق الأولية أو سوق الإصدار، حيث يتم ضخ أموال في رؤوس أموال عدداً من الشركات لرفع إنتاجيتها ونمو أنشطتها. لهذه الأسباب؛ فإني أؤيد هذا التوجه الإيجابي، ورأيي الخاص أن يكون التوجه في عمليات طرح من خلال زيادة رؤوس أموال هذه الشركات، وليس مجرد بيع حصة... فعملية زيادة رؤوس الأموال تعني ضخ أموال جديدة في شرايين الاقتصاد المصري، وافتتاح مزيد من المشروعات، وتشغيل عدد أكبر من العاملين... فهذا هو بيت القصيد. اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك




الخميس، 4 أغسطس 2016

الأستاذ.. والفارس


جريدة الاخبار - 4/8/2016


الأستاذ  من غيره، إنه الأستاذ محمد حسنين هيكل -رحمه الله، أما الفارس شكلاً وخلقاً فهو السيد/ منصور حسن -رحمة الله عليه. لقد حباني الله بحكمة لا أعلمها بأن أقترب كثيراً من الأستاذ والفارس رحمهما الله في سنوات عطائهما الأخيرة... أحن إليهما كثيراً، وأشتاق إلي حواراتي معهما... رغم الفارق العمري الكبير، وارتفاع مقامهما وقامتهما، نشأت بينهما وبيني علاقة ثقافية وفكرية وإنسانية دافئة... كانا ينتميان عمرياً وجيلياً إلي الماضي، ولكنهما فكرياً كانا لا شك صاحبي رؤي مستقبلية وتقدمية أكثر كثيراً من كل أبناء جيلي. كان كل من الأستاذ والفارس مؤمناً أن مستقبله المهني خلفه، ولكنه كان منشغلاً بمستقبل بلاده... حينما كنت أستغرب أحياناً وأعرب للأستاذ عن دهشتي من قسوة كلامه مع المسئولين في اجتماعاته المغلقة كان دائماً يقول لي إن مستقبله خلف ظهره وليس أمامه، وأن كل ما يمكن أن تمنحه الدولة إليه من مزايا فيما تبقي له هو جنازة عسكرية!! وأنه لا يرغب سوي أن يرحل في هدوء، وأنه لا يشغله سوي شيء واحد هو مستقبل مصر، واجتيازها المحنة. حواراتي الإنسانية مع الأستاذ كانت بالنسبة لي أهم بكثير من مناقشاتنا السياسية..


لن أنسي في حياتي المكالمة التليفونية الأخيرة مع الفارس منصور حسن... كان نبيلاً محترماً قوياً مترفعاً عن كل الصغائر... اتصلت به قبل وفاته بيومين للاطمئنان عليه... وكان في العين السخنة مكانه المفضل للبحث عن هواء نقي جاف لدعم رئتيه الضعيفتين... في ختام المحادثة قال لي الفارس: "هاني... من قلبي كنت أتمني أن نتعرف علي بعض من فترة أطول من كده"... شعرت داخلي أنها كلمات وداع، وانتهت مكالمة الوداع... قبل ذلك بشهور كان الفارس قد اتخذ قراره بخوض انتخابات الرئاسة، وبعد أيام معدودات اتصلت به وذهبت إليه، وظللت معه أربع ساعات متواصلة أثقلت فيها عليه كثيراً، وكنت علي قناعة بأن عليه أن يتخلي عن هذه المعركة وأن الأطراف المعنيين لم يكونوا صادقين، وأن اللاعبين الرئيسيين كل له خطته السرية وأنهم غير صادقين فيما يعلنونه ويتفقون معه عليه... كما أنني أشفقت عليه صحياً من هذه المعركة الطويلة، ولن أنسي يوم أن اتصل بي تليفونياً في طريق عودته من مصر الجديدة إلي بيته في الزمالك بعد لقائه بممثلي حزب النور، وكان يلتقط أنفاسه بصعوبة، وكان محبطاً مما سمعه من حوارات وزاد قلقه علي المستقبل... انتهي حواري ونقاشي معه بمنزله بقرار بالخروج من سباق الرئاسة مبكراً، وكان القرار سياسياً صحيحاً مائة في المائة... رجل بتاريخه لم تأخذه العزة بالإثم، كان فارساً نبيلاً متواضعاً... صاحب حكمة.

إن حياة الأستاذ حياة نفسها قصة تستحق أن تروي بالتفاصيل في كتب وليس كتاب واحد، وهي قصة أخّاذة مشوقة في فصولها ووقائعها ومشاهدها، وهي قصة مليئة بالدروس المهنية والتاريخية والإنسانية، وقد خصني بكثير من تجاربه الإنسانية لا المهنية، وهي الأهم في علاقتي بالأستاذ... الأستاذ كان ظاهرة إنسانية بكل معاني الكلمة... فرغم أنه كان قد تجاوز إثنين وتسعين عاماً، وكان قد ترك أي منصب رسمي أو حكومي منذ عام 1974 أي لمدة تزيد علي أربعين عاماً، فإن نور الحياة لم ينطفئ عنده حتي اللحظة الأخيرة التي أدرك فيها قبل كل من حوله أن قوانين الطبيعة قالت كلمتها، وإرادة الله قبل ذلك حكمت... كان حتي اللحظات الأخيرة رجلاً أسمي من همومه، كبرياؤه لم ينكسر في أي لحظة، راضياً سعيداً منشغلاً بالمستقبل، يحيط نفسه دائماً بالشباب، يسعي إليهم سعياً وهو في مقامه هذا...

لا تزال كلماته ترن في أذني حينما يتصل بي: "إيه يا سيدي انت فين؟... زعلان مني؟"... فأرد: "ده كلام يا أستاذ أزعل من حضرتك برضه!"... فيرد: "أمال إيه الحكاية مش بتسأل عليا ليه؟"... الأستاذ علي عكس ما يعتقد الكثيرون، كان يدرك جيداً العلاقة بين التوهج والغروب، وكان يدرك أكثر من حوله العلاقة بين السابق واللاحق... كان الرجل يعرف قواعد الحساب ولا يتجاهلها، لم يجعل في يوم ما أعباءه تزيد علي طاقته...
رحم الله الأستاذ والفارس، كم أشتاق إلي حكمتهما وحواراتهما كثيراً هذه الأيام.. اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

الخميس، 21 يوليو 2016

إنه الاقتصاد يا عزيزي !!

جريدة الاخبار - 21/7/2016

قوة  الاقتصاد لأي دولة في العالم، وصلابة برامج التنمية فيها، وما يرتبط بها من تحقيق للعدالة الاجتماعية؛ هي العوامل الأساسية للسلم والأمن الاجتماعي داخل الدولة، والبوابة الرئيسية للنهضة المستدامة. الوهن الاقتصادي يعني - قولاً واحداً - ضعف سياسي داخلي وخارجي. قلة الإيرادات العامة وسوء حالة الاستثمار البوابة الواسعة لانهيار العدالة الاجتماعية وسوء حالة التعليم والصحة والخدمات العامة. فمع ضعف الاقتصاد تقل الموارد السيادية، والاستثمارات في الخدمات العامة، فيقل الإنفاق علي الصحة والنقل العام والتعليم والبنية الأساسية، وهذا هو حالنا منذ زمن. تدهور المناخ العام للاستثمار الخاص يعني ببساطة تضاؤل قدرة الدولة ككل علي تصنيع ما تحتاجه والتواكل علي الاستيراد، وهو ما يعني زيادة ما نستورده من الخارج عن ما نقوم بتصديره أو تصنيعه وزراعته في الداخل... وهو ما يعني - بلغة الاقتصاديين - العجز في الميزان التجاري، فنحن نعتمد علي الخارج تقريباً في كل شيء، فالوهن الاقتصادي والضعف الإداري أديا إلي العجز في الميزان التجاري.

وهذا الخلل أدي إلي استنزاف مواردنا بالعملة الأجنبية، فما نصرفه بالدولار من أجل الاستيراد أعلي بكثير مما نحصل عليه من دولار، نتيجة قلة الصادرات وشحاحة ما ننتجه ونزرعه محلياً. يضاف إلي ذلك أن تردّي المناخ العام للاستثمار أدي إلي شُحّ الاستثمارات الخاصة - أي التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية إلي داخل الوطن، وهو ما أدي إلي شُحّ الدولار، ونقص الاحتياطي النقدي بالعملة الأجنبية واستنزافه علي مدار السنوات، وهو ما يسميه الاقتصاديون العجز في ميزان المدفوعات... فهانت قوة الشراء للعملة الوطنية، وارتفعت الأسعار بهذا الشكل الجنوني لأننا نستورد أكثر مما نزرع أو نصنع... فتدهور حال المصريين وزادت قسوة الحياة علي الأسر ذات الدخل الأقل. ومع كل هذا وذاك زادت البطالة، فالتشغيل وخلق فرص العمل يقتضي بناء المصانع وتوسيع قاعدة المشروعات الصغيرة والمتوسطة سواء كانت خدمية أو صناعية أو زراعية... الخلاصة أننا نحتاج إلي برنامج اقتصادي متكامل نعالج به كل هذه المشكلات، فالأزمات السياسية والاجتماعية ستزداد وتتفاقم لو لم نعالج مشاكلنا الاقتصادية بحسم...

دعونا نعترف، وهذه هي الخطوة الأولي للإصلاح الجذري... ليس لدينا برنامج اقتصادي واضح الملامح. نعم... فشلت كافة الحكومات المتعاقبة - منذ ثورة 25 يناير - في وضع برنامج اقتصادي إصلاحي موضع التنفيذ... كل ما يطل علينا من آن لآخر مجرد أفكار هنا وهناك، محاولات لإصلاح جزئية، تعامل مع المشكلات الاقتصادية بمنطق اليوم بيومه... هذا ليس نقدا أو تجريحا أو تقليلا من المجهودات المبذولة، ولكنه تحليل لواقعنا أياً كانت أسبابه ومبرراته، فهذه الأفكار المبتسرة والحلول الجزئية والتعامل اليومي وليس التخطيطي مع مشكلاتنا الاقتصادية وما يترتب عليها من آثار اجتماعية وسياسية سلبية؛ هي السبب فيما نحن عليه الآن، وهي المسئول الأول عن حالة "الغموض" و"القلق" التي نعيشها، والتي يعبر عنها السؤال المتكرر اليومي الذي نواجهه جميعاً: "هو احنا رايحين علي فين؟"، "هو فيه أمل؟"، "أرجوك طمني؟"... هذه الأسئلة المتكررة من المواطنين بكل طوائفهم - موظفين وعاملين وأصحاب مصانع وهكذا... ماحدش عارف بالضبط إيه ملامح الإصلاح الاقتصادي، وما هي الخطوات القادمة بشأن السياسة المالية، أو أسعار الطاقة، أو قضية الدعم، أو قواعد الاستيراد، أو التعامل مع العملة الأجنبية، وسعر الجنيه، أو الموقف الضريبي وأسعار الضرائب، أو ماذا نحن فاعلون مع السياسات الصناعية وخاصة مستلزمات الإنتاج المحلي... كل هذا غامض وغير معروف وغير واضح، فعنوان سياستنا الاقتصادية هو "الغموض" أو "عدم اليقين" Uncertainty، وهذا الغموض أو عدم الوضوح هو العدو رقم (1) لأي تطوير أو تنمية... هذا الوضع أشبه في حياة الشعوب بحالة "اللا سلم واللا حرب"... استمرار الوضع علي ما هو عليه كارثي، يجب أن نعلن عن برنامجنا للإصلاح الاقتصادي، يجب أن نعلن عن البرنامج الزمني... السياحة مهمة، تحويلات المصريين من الخارج ضرورية، ولكن الأهم من هذا وذاك هو الإصلاح الاقتصادي ووجود صناعة مصرية قوية، وزراعة معتبرة.

في هذا السياق، تثور تساؤلات غامضة، هل مصر بصدد التفاوض مع صندوق النقد الدولي لوضع برنامج إصلاحي للاقتصاد الوطني؟... هذا أيضاً مسألة في غاية الغموض، بعض المسئولين يؤكدون نعم، والبعض لا يعرف، والبعض يقول لا!!... سبق لمصر أن خاضت هذا البرنامج في عهد حكومة الدكتور/ عاطف صدقي، وكانت النتيجة إيجابية إلا أننا لم نكمل المشوار، وتراجعنا عن الاستمرار في سياسة الإصلاح الاقتصادي، وعدنا عام 2004 لنبدأ مشوار الإصلاح الاقتصادي، وبدأنا بهمة وجدية، وعدنا وتراجعنا اعتباراً من عام 2008، ولم نسر في طرق متوازية للإصلاح تلتقي في نهاية المشوار، وهي الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي والإصلاح السياسي، فكان الإصلاح الاقتصادي علي حساب الإصلاحين السياسي والاجتماعي، فتعطلت مسيرة الإصلاح علي كافة الجوانب بنهاية عام 2009، ولازلنا ندفع الثمن حتي الآن... خضنا بعد "25 يناير" جولتين من المفاوضات مع الصندوق لم يكتملا... في رأيي لأسباب سياسية، لم ترد الحكومات المؤقتة أن تتحمل الثمن السياسي!!

في رأيي الشخصي أن البدء الآن في برنامج إصلاحي مع صندوق النقد - رغم كل ما قد يصيبني من انتقادات - يصب في مصلحة مصر بشرط أن تكون عنصراً فاعلاً في وضع البرنامج ومؤمنين بنتائجه الإيجابية، ومستوعبين لمخاطر فشله، وقادرين علي تطبيقه... أهمية البرنامج هو عودة الانضباط إلي الاقتصاد المصري ومؤسساته. ويجب أن يكون واضحاً لدي الجميع أن البرنامج الإصلاحي الاقتصادي هدفه هو تحقيق العدالة الاجتماعية، فإذا كان من شأن أي برنامج اقتصادي المساس بالعدالة الاجتماعية فلا داعي له. ولكن يجب أن يكون معلوماً أن أية خطوة إصلاحية حقيقية سيكون لها ثمن سياسي واجتماعي علي المدي القصير، ويمكن الحد من هذه المخاطر بتخطيط جيد، وحوار مجتمعي حقيقي ومحترم، وشفافية عالية، وهدف ورؤية واضحة وخطط زمنية معلنة، وأهداف جزئية محددة... عندها فقط ستكون إجابتنا علي السؤال المحير "إحنا رايحين فين؟" هي: "احنا ماشيين في الطريق الصحيح، وسيكون غداً أفضل".

إنه الاقتصاد يا عزيزي!! اللينك

استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك