الخميس، 4 أغسطس 2016

الأستاذ.. والفارس


جريدة الاخبار - 4/8/2016


الأستاذ  من غيره، إنه الأستاذ محمد حسنين هيكل -رحمه الله، أما الفارس شكلاً وخلقاً فهو السيد/ منصور حسن -رحمة الله عليه. لقد حباني الله بحكمة لا أعلمها بأن أقترب كثيراً من الأستاذ والفارس رحمهما الله في سنوات عطائهما الأخيرة... أحن إليهما كثيراً، وأشتاق إلي حواراتي معهما... رغم الفارق العمري الكبير، وارتفاع مقامهما وقامتهما، نشأت بينهما وبيني علاقة ثقافية وفكرية وإنسانية دافئة... كانا ينتميان عمرياً وجيلياً إلي الماضي، ولكنهما فكرياً كانا لا شك صاحبي رؤي مستقبلية وتقدمية أكثر كثيراً من كل أبناء جيلي. كان كل من الأستاذ والفارس مؤمناً أن مستقبله المهني خلفه، ولكنه كان منشغلاً بمستقبل بلاده... حينما كنت أستغرب أحياناً وأعرب للأستاذ عن دهشتي من قسوة كلامه مع المسئولين في اجتماعاته المغلقة كان دائماً يقول لي إن مستقبله خلف ظهره وليس أمامه، وأن كل ما يمكن أن تمنحه الدولة إليه من مزايا فيما تبقي له هو جنازة عسكرية!! وأنه لا يرغب سوي أن يرحل في هدوء، وأنه لا يشغله سوي شيء واحد هو مستقبل مصر، واجتيازها المحنة. حواراتي الإنسانية مع الأستاذ كانت بالنسبة لي أهم بكثير من مناقشاتنا السياسية..


لن أنسي في حياتي المكالمة التليفونية الأخيرة مع الفارس منصور حسن... كان نبيلاً محترماً قوياً مترفعاً عن كل الصغائر... اتصلت به قبل وفاته بيومين للاطمئنان عليه... وكان في العين السخنة مكانه المفضل للبحث عن هواء نقي جاف لدعم رئتيه الضعيفتين... في ختام المحادثة قال لي الفارس: "هاني... من قلبي كنت أتمني أن نتعرف علي بعض من فترة أطول من كده"... شعرت داخلي أنها كلمات وداع، وانتهت مكالمة الوداع... قبل ذلك بشهور كان الفارس قد اتخذ قراره بخوض انتخابات الرئاسة، وبعد أيام معدودات اتصلت به وذهبت إليه، وظللت معه أربع ساعات متواصلة أثقلت فيها عليه كثيراً، وكنت علي قناعة بأن عليه أن يتخلي عن هذه المعركة وأن الأطراف المعنيين لم يكونوا صادقين، وأن اللاعبين الرئيسيين كل له خطته السرية وأنهم غير صادقين فيما يعلنونه ويتفقون معه عليه... كما أنني أشفقت عليه صحياً من هذه المعركة الطويلة، ولن أنسي يوم أن اتصل بي تليفونياً في طريق عودته من مصر الجديدة إلي بيته في الزمالك بعد لقائه بممثلي حزب النور، وكان يلتقط أنفاسه بصعوبة، وكان محبطاً مما سمعه من حوارات وزاد قلقه علي المستقبل... انتهي حواري ونقاشي معه بمنزله بقرار بالخروج من سباق الرئاسة مبكراً، وكان القرار سياسياً صحيحاً مائة في المائة... رجل بتاريخه لم تأخذه العزة بالإثم، كان فارساً نبيلاً متواضعاً... صاحب حكمة.

إن حياة الأستاذ حياة نفسها قصة تستحق أن تروي بالتفاصيل في كتب وليس كتاب واحد، وهي قصة أخّاذة مشوقة في فصولها ووقائعها ومشاهدها، وهي قصة مليئة بالدروس المهنية والتاريخية والإنسانية، وقد خصني بكثير من تجاربه الإنسانية لا المهنية، وهي الأهم في علاقتي بالأستاذ... الأستاذ كان ظاهرة إنسانية بكل معاني الكلمة... فرغم أنه كان قد تجاوز إثنين وتسعين عاماً، وكان قد ترك أي منصب رسمي أو حكومي منذ عام 1974 أي لمدة تزيد علي أربعين عاماً، فإن نور الحياة لم ينطفئ عنده حتي اللحظة الأخيرة التي أدرك فيها قبل كل من حوله أن قوانين الطبيعة قالت كلمتها، وإرادة الله قبل ذلك حكمت... كان حتي اللحظات الأخيرة رجلاً أسمي من همومه، كبرياؤه لم ينكسر في أي لحظة، راضياً سعيداً منشغلاً بالمستقبل، يحيط نفسه دائماً بالشباب، يسعي إليهم سعياً وهو في مقامه هذا...

لا تزال كلماته ترن في أذني حينما يتصل بي: "إيه يا سيدي انت فين؟... زعلان مني؟"... فأرد: "ده كلام يا أستاذ أزعل من حضرتك برضه!"... فيرد: "أمال إيه الحكاية مش بتسأل عليا ليه؟"... الأستاذ علي عكس ما يعتقد الكثيرون، كان يدرك جيداً العلاقة بين التوهج والغروب، وكان يدرك أكثر من حوله العلاقة بين السابق واللاحق... كان الرجل يعرف قواعد الحساب ولا يتجاهلها، لم يجعل في يوم ما أعباءه تزيد علي طاقته...
رحم الله الأستاذ والفارس، كم أشتاق إلي حكمتهما وحواراتهما كثيراً هذه الأيام.. اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق