الخميس، 23 يونيو 2016

عودة إلي حلم المشروع القومي للمدرس

جريدة الاخبار - 23/6/2016

تحدثت في المقال السابق عن أنه لا أمل في إصلاح التعليم، ولا تحقيق طفرة في مستوي التعليم الأساسي أي المرحلة من التعليم الابتدائي حتي الثانوي لو لم نبدأ بالمشروع القومي للمدرس. فلا بناء المدارس وحدها، ولا تقليل كثافة الفصول، ولا نظام الغذاء المدرسي، ولا حتي تطوير المناهج واستخدام التكنولوجيا سيحقق طفرة في مستوي التعليم لو لم نبدأ بالمدرس. فالأولويات في إصلاح المنظومة التعليمية متعددة ومتدرجة، ولكن الأولوية رقم (1) في رأيي هي المُدرِس. فصناعة العقل البشري، والتكوين الثقافي تبدأ من عند المدرس. الاتزان النفسي، والتدبر الفكري، والتنوع الثقافي، وثقافة الاختلاف، ومهارة البحث، وحسن التدبر، ووسطية الفكر، واحترام الآخر، وثقافة العمل الجماعي، والإبداع في العمل، وانتظام السلوك، واكتشاف مواطن النبوغ والمهارة، وحسن الإدارة كلها مبادئ ومهارات وأفكار تبدأ من عند المدرس. حتي ولو اعتمدنا علي التعليم عن بعد والتكنولوجيا الحديثة، فهي لن تغني عن المدرس، بل علي العكس ستكون الحاجة إلي المدرس للتوجيه والتطوير أهم بكثير مما هي عليه الآن. الاستثمار البشري في المدرس هو المشروع القومي رقم (1) في رأيي إذا أردنا أن ننتقل من عصور القرون الوسطي إلي العصر الحديث، وإذا شئنا أن نقفز علي مستوي دول العالم من الترتيب رقم (141) من حيث جودة التعليم الأساسي إلي الترتيب رقم (41) خلال العشر سنوات القادمة. إن تدريب وتثقيف المدرس المصري ليس بديلاً عن بناء المدارس، ونحن نحتاج إلي بناء 3 مدارس جديدة كل أسبوع!! إذا استمررنا في الزيادة السكانية بهذا القدر، وتري بعض الدراسات أن استمرار الانفجار السكاني بهذا الشكل سيتطلب خلال الخمس سنوات القادمة بناء (3) مدارس جديدة يومياً وهو أمر مستحيل!!

كما أن المشروع القومي للمدرس المصري ليس بديلاً عن تطوير المناهج واللجوء إلي التكنولوجيا الحديثة فلم تعد لدينا رفاهية التأخير. ولكن مع كل هذا يجب أن نبدأ في المشروع القومي للمدرس. وأعني هنا ضرورة البدء في وضع مشروع قومي واستراتيجية خاصة بتدريب المدرسين وتثقيفهم وتطوير أدائهم، ووضع برامج علي مستوي الجمهورية لضمان تأهيلهم المستمر. وفي هذا السياق أرسل إليّ الصديق د/ محمد عبد اللطيف رسالة، وهو أحد المهتمين بقضايا التعليم ويدير عدداً من المدارس، وحاصل علي الدكتوراه في إدارة التعليم من الولايات المتحدة الأمريكية. جاء في رسالته أن عدد المدرسين في المرحلة الأساسية بلغ مليونا وأربعمائة ألف مدرس. للأسف الشديد الغالبية منهم غير مؤهلين لا علمياً ولا ثقافياً ولا إدارياً لأداء دورهم في تنشئة جيل قادر علي التنمية والنهضة. أعلم تماماً أنه لا يمكن اختزال العملية التعليمية في المدرس، ولكن لا شك أن المدرس هو الركن الأهم، والقاعدة الراسخة التي يمكن أن يبني عليها استراتيجية الإصلاح التعليمي. توجد محاولات فردية هنا وهناك تبني برامج منتظمة للتدريب المستمر للمدرسين. منها علي سبيل المثال ما يبذله رجل الأعمال المهندس/ معتز الألفي من خلال مؤسسته المعنية بتطوير التعليم. فعلي هامش تهنئته علي إصداره لكتابه المتميز بشأن فنون الإدارة، وشكري له علي إهدائه لي هذا الكتاب القيم الذي يلخص مسيرة حياة عملية ناجحة، أخبرني بأن مؤسسة الألفي، وهي لا تهدف إلي تحقيق الربح تقوم بإرسال المدرسين المصريين في أكثر من 28 مدرسة حكومية إلي بعثات تعليمية ودورات تدريبية بألمانيا لتأهيل المدرسين. آمل في تطور هذه المحاولات لتصبح مشروعاً قومياً ولنبدأ بتدريب المدربين قبل المتدربين. إن برامج تأهيل المدرسين ليست مشكلة مصرية بل هي مشكلة تواجه الكثير من دول العالم، ولكنها أصبحت بالنسبة لنا أزمة خطيرة إزاء تردي حالة التعليم، اطلعت علي بعض برامج التدريب للمدرسين في إنجلترا. واكتشفت أن الدورات التدريبية للمدرسين تشمل تسليحهم بالعديد من المهارات اللازمة المكتسبة بدءاً من استقبال التلاميذ بالفصل، واستخدام الصوت للتعبير عن الشرح أو الحديث للتلاميذ، وكيفية عدم استهلاك الوقت لتسجيل حضور الطلاب، واستخدام المفردات في الحوار مع الطلاب، وكيفية استخدام لغة الجسد وحركاته للتعبير، والتواصل مع الطلاب، وكيفية بث الثقة في نفوس التلاميذ، وحثهم علي المشاركة والحوار، وكيفية التعامل علي نحو لا يفقد التلاميذ الانتباه أثناء الحضور في الفصل. أثبتت الدراسات جميعها أن هذه المهارات تحتاج إلي أن تكتسب وأن تُدرس لكي ننشئ أجيالاً صالحة، فلا أمل في الإصلاح والنهضة الثقافية والاقتصادية دون النهضة والإصلاح التعليمي ولا أمل في النهضة والإصلاح التعليمي دون البدء بمشروع قومي للنهوض بالمدرس ثقافياً وتعليمياً واجتماعياً ومالياً. سؤال إلي المجلس الاستشاري الرئاسي المعني بالتعليم، هل فيما أقول شيء غلط، وإذا كان ما أقوله صحيحاً، فأين استراتيجية تطوير التعليم والمدرس علي وجه الخصوص؟ أفيدونا أفادكم الله... بالمناسبة لا أتوقع إجابة!!

وبمناسبة الحديث عن المشروعات القومية وغذاء العقل من الثقافة والتعليم، فإن ذلك لا يمكن أن ينسينا قضية الطعام وإنتاجنا من الغذاء... أعلم أن الدولة تبني نهجاً واضحاً في محاولة توسيع الرقعة الزراعية منها مشروع زراعة المليون فدان كمشروع زراعي تنموي متكامل. في خلال عشرين عاماً من الآن أو أقل قليلاً ستحتاج مصر إلي ضعف احتياجاتها من الغذاء الآن، فالزيادة السكانية التي لم نفعل شيئاً بشأنها حتي الآن تأكل من مواردنا. مع استمرار تآكل الرقعة الزراعية، ومع ارتفاع عدد السكان لابد أن ننتبه. رغم أننا في حاجة إلي مضاعفة إنتاجنا من المواد الغذائية سواء المنتجات الزراعية أو الأسماك أو اللحوم أو منتجات الألبان إلا أن الأمر ليس بمستحيل. إن مضاعفة إنتاجنا الغذائي من الضروريات لمواجهة الاحتياجات الأساسية للمصريين، ولمواجهة العجز في ميزاننا التجاري، ولتحسين أوضاعنا الاقتصادية وتحقيق الاستقرار الاجتماعي. أتمني أن تضع الدولة خطة واضحة للحد من فقد الإنتاج من المحاصيل الزراعية. فطبقاً لإحدي الدراسات، فإن أكثر من ثلث إنتاجنا الزراعي يضيع هباءً إما بسبب سوء آليات جني المحاصيل وتقنيات الزراعة، أو بسبب انعدام نظم التخزين، أو سوء عملية النقل الداخلي وتباطؤها. فمحصول مثل الطماطم يفسد ثلثه وهو لايزال في أرض المزارع، ويفسد الثلث الآخر من عمليات النقل بين المحافظات أي أن 65% من المحصول وإنتاجنا يضيع، ويصل الثلث فقط إلي المستهلك!! يجب قبل أن نوسع من رقعتنا الزراعية ونستثمر المليارات وهو أمر مطلوب، أن نستثمر بضعة ملايين للمحافظة علي ما ننتجه وأن تكون لدينا سياسات واضحة للتقليل من الفاقد. نريد سياسة حكومية واضحة للتعامل مع آليات الزراعة والحصد، ورفع كفاءة التخزين للمحصولات الزراعية، وتحسين شبكة النقل والتجارة الداخلية ونظم الري. طبقاً لدراسة حديثة أعدتها منظمة الغذاء والزراعة (FAO) فإن مثل هذه السياسات تكفي لتغطية جانب كبير من الفجوة الغذائية التي نواجهها دون أن نزرع شبراً جديداً. لست متخصصاً، لكن تجربة البرازيل تحتاج إلي دراستها بعناية. فاستخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة وتطوير نظم الري لرفع كفاءة الإنتاج الزراعي وإدخال محصولات جديدة، أمور من شأنها أن ترفع من قدرة مصر الإنتاجية بنسبة لا تقل عن 15% في أقل من ست سنوات دون أن نزرع فداناً واحداً إضافياً!! أرجوكم إذا كنت أقول شيئاً غير صحيح، فصححوا لي معلوماتي، وإذا كانت المعلومات صحيحة، فلماذا لم نبدأ بعد، أرجوكم ردوا عليا.... لن يرد أحد!! اللينك

استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

الخميس، 16 يونيو 2016

حلم المشروع القومي للمدرس

جريدة الاخبار - 16/6/2016

والدي رحمة الله عليه من مواليد عام 1907، وحصل علي ليسانس في الحقوق، وليسانس في الآداب قسم تاريخ، وكنت أنبهر وأنا طفل صغير بذاكرته الفولاذية في رسم خرائط دول العالم وتشبيهاته للتذكرة بخريطة كل دولة، فمصر فاتحة يديها إلي العالم، وإيطاليا أشبه بحذاء شتوي طويل (بوت)، وهكذا..، وكان حينما يساعدني في فهم قواعد الصرف والنحو في اللغة العربية كنت أتعجب من بلاغته وقدرته علي تبسيط قواعد اللغة والتي كانت بالنسبة لي أشبه بالطلاسم، وعندما كنت ألجأ إليه لفهم اللغة الإنجليزية أو السؤال عن معني بعض المفردات كنت أجد الإجابة عنده فوراً رغم أنه لم يكن قد درس في أي مدارس أجنبية، وكان يحكي لي قصصه مع مدرّسيه، وتعلمت منه أن أستاذه للجغرافيا في المرحلة الثانوية كان عالماً شهيراً هو الرحالة «علي ثابت»، وكان له اكتشافاته المثيرة في أفريقيا، وكان الرحالة «علي ثابت» - أستاذ الجغرافيا في المدارس الحكومية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي - ينشر اكتشافاته في مجلة «الرسالة» التي كان يرأس تحريرها عميد الأدب العربي الدكتور «طه حسين».


وكان والدي يحكي لي أن أستاذ اللغة العربية الذي تتلمذ عليه كان الشيخ «علي الجارم»، والشيخ «علي الجارم» أديب معروف وشاعر علّامة، وجيلي من الأبناء كنا ندرس أشعاره في مناهج اللغة العربية في السبعينيات من القرن الماضي، وكان والدي - رحمه الله - يفتخر بتلمذته علي يد الشيخ «علي الجارم»، والذي شاءت الأقدار أن ألتقي بحفيده صديقي د/ علي الجارم أثناء دراستي في إنجلترا، وهو حالياً أستاذ بكلية الطب جامعة القاهرة، وكان والدي يحكي لي بفخر كيف أن الشيخ «علي الجارم» أعطاهم امتحاناً في مادة التعبير، وكان موضوع التعبير «هب أنك زهرة في بستان فماذا أنت فاعل؟»، ويحكي لي كيف أن الشيخ «علي الجارم» غضب منهم مرة فكان موضوع التعبير «هب أنك حمار فماذا أنت فاعل»؟!!

ولم تخل ذكريات أبي عن دراسته من ذكر اسم أستاذه في اللغة الإنجليزية مستر «يدز»، والذي عاد بعد ذلك إلي بلاده في إنجلترا، وصار كبيراً لمفتشي وزارة التعليم في الإمبراطورية البريطانية..، وظل علي تواصله بتلاميذه حتي توفي في منتصف الستينات من القرن الماضي...

حينما كبرت وعدت أتذكر هذه الحكايات أدركت مدي جودة التعليم في هذا الجيل، وقد كانت الفترة من العشرينيات إلي منتصف الستينيات من القرن الماضي هي العصر الذهبي للتعليم الأساسي الحكومي في مصر، وكانت هذه الفترة تمثل عصر النهضة التعليمية بكل معاني الكلمة، ولكني أدركت كذلك أن هذه النهضة التعليمية لم تكن بسبب عدد المدارس، أو قلة عدد التلاميذ في الفصول، أو حتي جودة المناهج، بل كانت كلمة السر هي جودة وكفاءة الأساتذة القائمين علي التعليم الحكومي، فلم يكن متصوراً أن يكون معلومات تلاميذ الرحالة «علي ثابت» في الجغرافيا ضحلة، أو أن تكون اللغة العربية لتلاميذ الشاعر «علي الجارم» ركيكة، أو تكون الثقافة الإنجليزية لدي تلاميذ مستر «يدز» مرتبكة؛ فمفتاح النجاح في نهضة التعليم الأساسي - أي الابتدائي والإعدادي والثانوي - هي «المدرّس».

مصر في القرن الواحد والعشرين حصلت علي الترتيب الـ(141) بين دول العالم من حيث جودة التعليم الأساسي، فكنا - طبقاً لتقارير التنافسية العالمية - علي مدار السنوات الخمس الماضية واحدة من أسوأ ثلاث دول في العالم من حيث جودة التعليم الأساسي بمراحله الثلاث الابتدائي والإعدادي والثانوي.

النهضة الشاملة لهذه الأمة تبدأ من رفع مستوي التعليم، ورفع مستوي التعليم لن يتحقق إلا إذا بدأنا بالمدرّس، فصناعة العقول وشخصية الإنسان تبدأ من عند المدرس، وهي خطوة أهم وأصعب من بناء المدارس وتجديد المناهج، فلا جدوي من كل هذا لو لم يكن لدينا مدرّسون أكفاء..، انهيار التعليم الأساسي في مصر لم يكن سببه الرئيسي ارتفاع كثافة الفصول ولا تردي المناهج، بل كان في المقام الأول تدهور الحالة التعليمية والثقافية والمالية للمدرس ذاته.

ولذلك ليس من المستغرب أن تكون دولة مثل سنغافورة أو فنلندا علي رأس أفضل دول العالم من حيث جودة التعليم، فرواتب المدرّسين هي الأعلي في سنغافورة وبخاصة مدرسي رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، كما أن متطلبات الدراسة التأهيلية للمعلمين ليست باليسيرة، وحينما سئل «لي كوان» عن أهم أسباب نجاحات سنغافورة رد قائلاً: «..، إننا نصرف موارد الدولة علي التعليم، وإننا نعطي المدرّسين أعلي الأجور».

إنسي كثافة الفصول، والنظام الغذائي في المدارس، وملابس التلاميذ، وتطوير المناهج..، السر في التعليم الأفضل هو المدرّس، فهو الركن الأهم في المنظومة التعليمية، توجد دراسة أمريكية منشورة منذ أسابيع قليلة تثبت أن الحصيلة التعليمية التي يحصل عليها الطلاب من المدرّسين الأكفاء تزيد بثلاثة أضعاف عن الحصيلة التعليمية التي يحصل عليها الطلاب من المدرّسين الأقل كفاءة، فالمعيار الرئيسي في الجودة التعليمية هي التحصيل من المدرّس، يجب أن تسعي الدولة مرة أخري للاستثمار في المدرّسين، ورفع مستوي تعليمهم؛ فناقص الشيء لا يعطيه، إذا كان هناك مشروع قومي أولي بالرعاية فلا شك عندي أنه المشروع القومي لتدريب وتأهيل المدرّسين، يجب تعظيم كفاءة أجيال المدرّسين الحاليين، إن المدرّس الجيد قادر علي إخراج أجيال رائعة من الطلاب من شأنهم تغيير وجه مصر إلي الأفضل إلي الأبد، لست خبيراً في برامج تأهيل المدرّسين ولا أعلم ماذا يفعل المجلس الاستشاري للتعليم التابع لرئيس الجمهورية، وليست لدي معلومات بشأن ما تقوم به وزارة التعليم بشأن برامج تأهيل وتدريب المعلمين، ولا أعلم ما الذي فعله المجلس الأعلي للجامعات لرفع مستوي التعليم والتدريب للكليات المتخصصة للمعلمين، كل ما أعلمه أن حالة المدرّسين الثقافية والعلمية والمالية سيئة، وأن صانعي العقول والأجيال يعانون بمعني الكلمة، وكل ما أدركه أنه ما من دولة نجحت في تحقيق نهضة حقيقية لنظم تعليمها إلا وكانت البداية بتعليم وتأهيل المدرّسين وتطوير قدراتهم، المدرّسون في فنلندا - وهي الدولة رقم (1) في العالم - يتقاضون مرتبات أعلي قليلاً من نظرائهم في الدول الأوروبية، ولكنهم الأفضل بسبب برامج تدريبهم وتأهيلهم ونظرة المجتمع الإيجابية إليهم، إن تطوير المناهج، وأساليب التعليم، والبحث عن الموهوبين، والإدارة المثلي للمدارس، وخلق مواطن صالح؛ هي مهام المدرّس، فهو صانع العقول والأجيال..، فإذا لم نبدأ بتدريبه وتعليمه ستستمر المنظومة التعليمية في الانهيار، وتتبدد أحلامنا في النهضة.

أرجو أن يتبني الرئيس مشروعاً قومياً قوامه «المدرّس المصري»، أرجوك سيادة الرئيس أن تهتم بهذا المشروع، فهذا المشروع هو مشروع النهضة المصرية بكل ما تعنيه الكلمة..، ففي وقت من الأوقات كان المدرّس المصري من أعمق أدوات القوي الناعمة لمصر، واسألوا جيل الرواد في الدول العربية، فجميعهم تتلمذ وتكونت ثقافاته علي أيدي المدرّسين المصريين. اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

الخميس، 9 يونيو 2016

إلي أبنائي... جمل لها معني قالها الحكماء

جريدة الاخبار - 9/6/2016

هل تعلم يا بُنَي أن أعظم مخاطرة في الحياة هي عدم المخاطرة، فمن لا يخاطر لا يفعل شيئاً، ولا يملك شيئاً، ويصبح لا شيء. وكن دائماً أنت ولا تحاول أن تكون أحداً آخر، فجميع مقاعد الحياة قد امتلأت ولديك مقعد واحد فقط شاغر هو لذاتك، وكن سعيداً وأنت في الطريق إلي السعادة، فالسعادة الحقيقية في المحاولة، وليست بالضرورة في محطة الوصول. وتأكد أن مهمتك في الحياة ليست أن تسبق غيرك، بل أن تسبق نفسك، وليس أن تتحدي غيرك بل أن تتحدي نفسك. لا تصارع ضميرك، فاجعله دائماً ينتصر عليك.

يا بُنَي، تأكد من أن التفاؤل يمنحك النجاح قبل اكتماله والتشاؤم يذيقك حسرة الفشل قبل حدوثه، فكن متفائلاً، وافعل الصواب بصوت هادئ، فغداً سيتحدث عملك عنك بصوتٍ عال. وثق بنفسك أولاً وعندها سيثق الناس بك ولا تتوقع العكس، لأن من يفقد الثقة بالنفس لا يمكنه أن يظهرها للآخرين. وثق أنه ليس من الذكاء أن تنتصر في الجدال، وإنما من الذكاء ألا تدخل في جدال عقيم أصلاً. لا تحصر أحلامك في هدف واحد ولا تحصر آمالك في شخص واحد ولا تحصر أفكارك في موضوع واحد.

يا بُنَي، النجاح هو أن تحول أحلامك إلي واقع، ولكن إياك أن تحلم إلي الدرجة التي تنسي فيها الواقع، وإياك أن يحاصرك الواقع إلي الدرجة التي تنسي فيها أحلامك!! وإذا كانت لك أهداف كبيرة يصعب تحقيقها فقم بتجزئتها إلي أهداف أصغر قابلة للتحقيق. واعلم أن النجاح لا يقاس كثيراً بالمناصب التي وصل إليها الإنسان في الحياة بقدر ما يقاس بالعقبات التي قد تغلب عليها. واجعل الوصول لهدف بمثابة نقطة انطلاق لهدف آخر. والنجاح له شروط ثلاثة، أن تعرف أكثر من الآخرين، وأن تعمل أكثر من الآخرين، وأن تتوقع الأقل من الآخرين. وعليك أن تدرك أن العقل الواعي هو القادر علي احترام أفكار الآخرين حتي لو لم يؤمن بها. وكن من أصحاب الأرواح الراقية التي تحترم ذاتها وتحترم الغير تتحدث بعمق، تطلب بأدب، تمزح بذوق، تعتذر بصدق وترحل بهدوء.

إن السعادة تسكن القلب بشروط ثلاثة، عدم الحزن علي ما فات، وعدم القلق علي ما هو آت، والرضا بما قسم رب السموات. ولذا فإن السعادة أمر صعب المنال يحتاج إلي جهد، واعرف أن من حق نفسك عليك أن تشعرها بالرضاء، فقط تأمل حياتك وتأمل ما رزقت واشعر بالامتنان. وتذكر قول "برناردشو"، أن تبتسم دائماً لا يعني أنك لا تحمل مشاكل... بل يعني أنك قررت أن تتخطاها. وثق أنه لن يمنحك أحد السعادة التي ترجوها ما لم تسع أنت لتحقيقها فالسعادة نابعة منك أولاً قبل أن تكون من أي شيء أو أحد آخر. الحياة جميلة فقد منحك الله إياها، ولكن أعطها حقها من التفاؤل، كي تعطيك حقك من السعادة. فيا بني الحياة قد تتعثر ولكنها لا تتوقف، والأمل قد يختفي ولكن لا يموت أبداً والفرص قد تضيع ولكنها لا تنتهي، فلا تلهث وراء الفرص الضائعة بل استمر في البحث عن الفرص الجديدة.

يا بُنَي، علمتني الحياة أن الأيام لا تغير أحداً بل تظهر الناس علي حقيقتهم فمنهم من يزداد جمالاً ومنهم من ينكشف زيفه. والعلاقات الإنسانية لا تقاس بطول العشرة وإنما تقاس بجميل الأثر وجميل الأخلاق فكم من معرفة قصيرة المدي لكنها بجمالها أعمق وأنقي. واستمتع كثيراً بما لديك، فإن فكرت كثيراً في المفقود فقدت كثيراً من الموجود لأنك انتقلت من عالم الاستمتاع بما في يديك إلي عالم التفكير بما ليس لديك.

يا بُنَي، لا تصر علي الكلام في كل الأوقات، فللصمت فوائد جمة في غير القليل من الأوقات، فالصمت عبادة من غير عناء وزينة من غير حلي وهيبة من غير سلطان وحصن من غير حائط، وفيه استغناء عن الاعتذار. واعرف أن الصمت لا يعني عدم القدرة علي الرد!! فللصمت غايتان، التغاضي عن التفاهات المطروحة والآخر حينما لا تري جدوي من الحديث. والأناقة في الحياة متعة، فكن أنيقاً في المظهر بلا تكبر ولا كبر، وكن أنيقاً في الجوهر، واعلم أن أرقي أنواع الأناقة هي أن تكون بعيداً عن القيل والقال، نظيف القلب، ناصع الفكر، طيب الأخلاق، جميل المشاعر. وعليك أن تشغل عقلك بأمور جيدة وباستمرار فإن لم تشغله بأفكار جيدة شغلك بأفكار مزعجة سلبية. ولا تفكر بشكل مبالغ فيه في خيبات الماضي، فمثل هذا التفكير يجعل حياتك كئيبة جداً، فلا تقتل لحظتك بالتحسر علي الماضي، وعش حياتك سعيداً فالأيام لا تعود. وتذكر أن عجز الفكر والروح ليس مرتبطاً بالسن، فإذا حصرت نفسك بالتفكير فيما مضي فأنت عجوز عقلاً وروحاً، وإذا شغلت نفسك بالحاضر، فقد صرت صاحب حكمة، وإذا تحولت بفكرك نحو المستقبل فأنت شاب الفكر والروح. ولا تكن أنانياً بل كن كريماً مع كل من تحب، وتذكر ما قاله أوسكار وايلد: ليست الأنانية أن يعيش الإنسان كما يهوي، بل أن يطلب من الآخرين أن يعيشوا كما يريد هو.

وتذكر يا بُنَي ثلاثة أمور في معاملتك للناس لا تجعلها تغيب عن فكرك طوال ما حييت، أولها، أن تعامل الناس علي مبدأ، إن لم تنفعه فلا تضره وإن لم تفرحه فلا تغمه وإن لم تمدحه فلا تذمه، وثانيها، أن لا تجعل همك حب الناس لك فالناس قلوبهم متقلبة قد يحبونك اليوم ويكرهونك غداً وليكن همك حب الله لك فإن أحبك جعل أفئدة الناس تحبك، وثالثها، مهما كان حجم خبرتك وعلمك ومهما كان موقفك ووجهة نظرك احرص علي عدم الاستعجال بالحكم علي الأمور، واعطِ الفرصة للآخرين لتوضيح مقاصدهم.

لا تعود نفسك يا بُنَي علي سوء الظن بالآخرين، فسوء الظن ليس من الفطنة أو الذكاء بل هو مرض يقتل علاقتك بالآخرين. وكلما ازدادت قدرتك علي التسامح، ازداد نضجك، فالشخص المتسامح هو شخص ناضج بالقدر الكافي الذي يجعله يتغاضي عن الأحقاد ويقدر الآخرين وظروفهم. فالمتسامح أسعد الناس قلوباً عرف قيمة الدنيا فلم يبالِ بحقد البشر، واحرص علي فهم الآخرين قبل أن تطالبهم بأن يفهموك فمعظم مشكلاتنا الشخصية تقع بسبب الفجوة بين ما أقصده "أنا" وما تفهمه "أنت".

إن النجاح رحلة، فلا تظن أن الناجحين كانوا هكذا علي الدوام بل هم بشر حصلوا علي نصيبهم من التخبط والفشل وتلمس الطريق الصحيح. وتأكد من أنك إذا استطعت العثور علي طريق خال من المعوقات، فهو غالباً لا يؤدي إلي أي مكان، واعلم أنه إذا جعلك النجاح متكبراً فأنت لم تنجح فعلاً، وإذا كان الفشل يجعلك أكثر تصميماً علي تحقيق أهدافك فأنت لم تفشل حقاً. والفشلة ينقسمون إلي نصفين، هؤلاء الذين يفكرون ولا يعملون، وهؤلاء الذين يعملون ولا يفكرون أبداً، فكن من هؤلاء الذين يفكرون ويعملون.
كلمة أخيرة، اجعل شعارك في الحياة "لا أخاف من الأفكار الجديدة بل أخاف من الأفكار القديمة". بالمناسبة هذه النصيحة أتوجه بها كذلك إلي أعضاء الحكومة الجديدة، حكومة المهندس/ شريف إسماعيل!! وأزيد عليها، يا باشمهندس إسماعيل، لا تخف من الوجوه الجديدة ولا الأفكار الجديدة بل عليك أن تخاف من الوجوه القديمة والأفكار القديمة.
رمضان كريم وكل عام وأنتم بخير. اللينك

استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك