تحدثت في المقال السابق عن أنه لا أمل في إصلاح التعليم، ولا تحقيق
طفرة في مستوي التعليم الأساسي أي المرحلة من التعليم الابتدائي حتي الثانوي لو لم
نبدأ بالمشروع القومي للمدرس. فلا بناء المدارس وحدها، ولا تقليل كثافة الفصول،
ولا نظام الغذاء المدرسي، ولا حتي تطوير المناهج واستخدام التكنولوجيا سيحقق طفرة
في مستوي التعليم لو لم نبدأ بالمدرس. فالأولويات في إصلاح المنظومة التعليمية
متعددة ومتدرجة، ولكن الأولوية رقم (1) في رأيي هي المُدرِس. فصناعة العقل البشري،
والتكوين الثقافي تبدأ من عند المدرس. الاتزان النفسي، والتدبر الفكري، والتنوع
الثقافي، وثقافة الاختلاف، ومهارة البحث، وحسن التدبر، ووسطية الفكر، واحترام
الآخر، وثقافة العمل الجماعي، والإبداع في العمل، وانتظام السلوك، واكتشاف مواطن
النبوغ والمهارة، وحسن الإدارة كلها مبادئ ومهارات وأفكار تبدأ من عند المدرس. حتي
ولو اعتمدنا علي التعليم عن بعد والتكنولوجيا الحديثة، فهي لن تغني عن المدرس، بل
علي العكس ستكون الحاجة إلي المدرس للتوجيه والتطوير أهم بكثير مما هي عليه الآن.
الاستثمار البشري في المدرس هو المشروع القومي رقم (1) في رأيي إذا أردنا أن ننتقل
من عصور القرون الوسطي إلي العصر الحديث، وإذا شئنا أن نقفز علي مستوي دول العالم
من الترتيب رقم (141) من حيث جودة التعليم الأساسي إلي الترتيب رقم (41) خلال
العشر سنوات القادمة. إن تدريب وتثقيف المدرس المصري ليس بديلاً عن بناء المدارس،
ونحن نحتاج إلي بناء 3 مدارس جديدة كل أسبوع!! إذا استمررنا في الزيادة السكانية
بهذا القدر، وتري بعض الدراسات أن استمرار الانفجار السكاني بهذا الشكل سيتطلب
خلال الخمس سنوات القادمة بناء (3) مدارس جديدة يومياً وهو أمر مستحيل!!
كما أن المشروع القومي للمدرس المصري ليس بديلاً عن تطوير المناهج
واللجوء إلي التكنولوجيا الحديثة فلم تعد لدينا رفاهية التأخير. ولكن مع كل هذا
يجب أن نبدأ في المشروع القومي للمدرس. وأعني هنا ضرورة البدء في وضع مشروع قومي
واستراتيجية خاصة بتدريب المدرسين وتثقيفهم وتطوير أدائهم، ووضع برامج علي مستوي
الجمهورية لضمان تأهيلهم المستمر. وفي هذا السياق أرسل إليّ الصديق د/ محمد عبد
اللطيف رسالة، وهو أحد المهتمين بقضايا التعليم ويدير عدداً من المدارس، وحاصل علي
الدكتوراه في إدارة التعليم من الولايات المتحدة الأمريكية. جاء في رسالته أن عدد
المدرسين في المرحلة الأساسية بلغ مليونا وأربعمائة ألف مدرس. للأسف الشديد
الغالبية منهم غير مؤهلين لا علمياً ولا ثقافياً ولا إدارياً لأداء دورهم في تنشئة
جيل قادر علي التنمية والنهضة. أعلم تماماً أنه لا يمكن اختزال العملية التعليمية
في المدرس، ولكن لا شك أن المدرس هو الركن الأهم، والقاعدة الراسخة التي يمكن أن
يبني عليها استراتيجية الإصلاح التعليمي. توجد محاولات فردية هنا وهناك تبني برامج
منتظمة للتدريب المستمر للمدرسين. منها علي سبيل المثال ما يبذله رجل الأعمال
المهندس/ معتز الألفي من خلال مؤسسته المعنية بتطوير التعليم. فعلي هامش تهنئته
علي إصداره لكتابه المتميز بشأن فنون الإدارة، وشكري له علي إهدائه لي هذا الكتاب
القيم الذي يلخص مسيرة حياة عملية ناجحة، أخبرني بأن مؤسسة الألفي، وهي لا تهدف
إلي تحقيق الربح تقوم بإرسال المدرسين المصريين في أكثر من 28 مدرسة حكومية إلي
بعثات تعليمية ودورات تدريبية بألمانيا لتأهيل المدرسين. آمل في تطور هذه
المحاولات لتصبح مشروعاً قومياً ولنبدأ بتدريب المدربين قبل المتدربين. إن برامج
تأهيل المدرسين ليست مشكلة مصرية بل هي مشكلة تواجه الكثير من دول العالم، ولكنها
أصبحت بالنسبة لنا أزمة خطيرة إزاء تردي حالة التعليم، اطلعت علي بعض برامج التدريب
للمدرسين في إنجلترا. واكتشفت أن الدورات التدريبية للمدرسين تشمل تسليحهم بالعديد
من المهارات اللازمة المكتسبة بدءاً من استقبال التلاميذ بالفصل، واستخدام الصوت
للتعبير عن الشرح أو الحديث للتلاميذ، وكيفية عدم استهلاك الوقت لتسجيل حضور
الطلاب، واستخدام المفردات في الحوار مع الطلاب، وكيفية استخدام لغة الجسد وحركاته
للتعبير، والتواصل مع الطلاب، وكيفية بث الثقة في نفوس التلاميذ، وحثهم علي
المشاركة والحوار، وكيفية التعامل علي نحو لا يفقد التلاميذ الانتباه أثناء الحضور
في الفصل. أثبتت الدراسات جميعها أن هذه المهارات تحتاج إلي أن تكتسب وأن تُدرس
لكي ننشئ أجيالاً صالحة، فلا أمل في الإصلاح والنهضة الثقافية والاقتصادية دون
النهضة والإصلاح التعليمي ولا أمل في النهضة والإصلاح التعليمي دون البدء بمشروع
قومي للنهوض بالمدرس ثقافياً وتعليمياً واجتماعياً ومالياً. سؤال إلي المجلس الاستشاري الرئاسي المعني بالتعليم، هل فيما أقول شيء
غلط، وإذا كان ما أقوله صحيحاً، فأين استراتيجية تطوير التعليم والمدرس علي وجه
الخصوص؟ أفيدونا أفادكم الله... بالمناسبة لا أتوقع إجابة!!
وبمناسبة الحديث عن المشروعات القومية وغذاء العقل من الثقافة والتعليم،
فإن ذلك لا يمكن أن ينسينا قضية الطعام وإنتاجنا من الغذاء... أعلم أن الدولة تبني
نهجاً واضحاً في محاولة توسيع الرقعة الزراعية منها مشروع زراعة المليون فدان
كمشروع زراعي تنموي متكامل. في خلال عشرين عاماً من الآن أو أقل قليلاً ستحتاج مصر
إلي ضعف احتياجاتها من الغذاء الآن، فالزيادة السكانية التي لم نفعل شيئاً بشأنها
حتي الآن تأكل من مواردنا. مع استمرار تآكل الرقعة الزراعية، ومع ارتفاع عدد
السكان لابد أن ننتبه. رغم أننا في حاجة إلي مضاعفة إنتاجنا من المواد الغذائية
سواء المنتجات الزراعية أو الأسماك أو اللحوم أو منتجات الألبان إلا أن الأمر ليس
بمستحيل. إن مضاعفة إنتاجنا الغذائي من الضروريات لمواجهة الاحتياجات الأساسية
للمصريين، ولمواجهة العجز في ميزاننا التجاري، ولتحسين أوضاعنا الاقتصادية وتحقيق
الاستقرار الاجتماعي. أتمني أن تضع الدولة خطة واضحة للحد من فقد الإنتاج من
المحاصيل الزراعية. فطبقاً لإحدي الدراسات، فإن أكثر من ثلث إنتاجنا الزراعي يضيع
هباءً إما بسبب سوء آليات جني المحاصيل وتقنيات الزراعة، أو بسبب انعدام نظم
التخزين، أو سوء عملية النقل الداخلي وتباطؤها. فمحصول مثل الطماطم يفسد ثلثه وهو
لايزال في أرض المزارع، ويفسد الثلث الآخر من عمليات النقل بين المحافظات أي أن
65% من المحصول وإنتاجنا يضيع، ويصل الثلث فقط إلي المستهلك!! يجب قبل أن نوسع من
رقعتنا الزراعية ونستثمر المليارات وهو أمر مطلوب، أن نستثمر بضعة ملايين للمحافظة
علي ما ننتجه وأن تكون لدينا سياسات واضحة للتقليل من الفاقد. نريد سياسة حكومية
واضحة للتعامل مع آليات الزراعة والحصد، ورفع كفاءة التخزين للمحصولات الزراعية،
وتحسين شبكة النقل والتجارة الداخلية ونظم الري. طبقاً لدراسة حديثة أعدتها منظمة
الغذاء والزراعة
(FAO) فإن مثل هذه السياسات تكفي لتغطية جانب كبير من الفجوة الغذائية التي
نواجهها دون أن نزرع شبراً جديداً. لست متخصصاً، لكن تجربة البرازيل تحتاج إلي
دراستها بعناية. فاستخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة وتطوير نظم الري لرفع
كفاءة الإنتاج الزراعي وإدخال محصولات جديدة، أمور من شأنها أن ترفع من قدرة مصر
الإنتاجية بنسبة لا تقل عن 15% في أقل من ست سنوات دون أن نزرع فداناً واحداً
إضافياً!! أرجوكم إذا كنت أقول شيئاً غير صحيح، فصححوا لي معلوماتي، وإذا كانت
المعلومات صحيحة، فلماذا لم نبدأ بعد، أرجوكم ردوا عليا.... لن يرد أحد!! اللينك
استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك