قوة الاقتصاد لأي دولة في العالم، وصلابة برامج التنمية فيها،
وما يرتبط بها من تحقيق للعدالة الاجتماعية؛ هي العوامل الأساسية للسلم والأمن
الاجتماعي داخل الدولة، والبوابة الرئيسية للنهضة المستدامة. الوهن الاقتصادي يعني
- قولاً واحداً - ضعف سياسي داخلي وخارجي. قلة الإيرادات العامة وسوء حالة
الاستثمار البوابة الواسعة لانهيار العدالة الاجتماعية وسوء حالة التعليم والصحة
والخدمات العامة. فمع ضعف الاقتصاد تقل الموارد السيادية، والاستثمارات في الخدمات
العامة، فيقل الإنفاق علي الصحة والنقل العام والتعليم والبنية الأساسية، وهذا هو
حالنا منذ زمن. تدهور المناخ العام للاستثمار الخاص يعني ببساطة تضاؤل قدرة الدولة
ككل علي تصنيع ما تحتاجه والتواكل علي الاستيراد، وهو ما يعني زيادة ما نستورده من
الخارج عن ما نقوم بتصديره أو تصنيعه وزراعته في الداخل... وهو ما يعني - بلغة
الاقتصاديين - العجز في الميزان التجاري، فنحن نعتمد علي الخارج تقريباً في كل
شيء، فالوهن الاقتصادي والضعف الإداري أديا إلي العجز في الميزان التجاري.
وهذا الخلل أدي إلي استنزاف مواردنا بالعملة الأجنبية، فما نصرفه
بالدولار من أجل الاستيراد أعلي بكثير مما نحصل عليه من دولار، نتيجة قلة الصادرات
وشحاحة ما ننتجه ونزرعه محلياً. يضاف إلي ذلك أن تردّي المناخ العام للاستثمار أدي
إلي شُحّ الاستثمارات الخاصة - أي التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية إلي داخل
الوطن، وهو ما أدي إلي شُحّ الدولار، ونقص الاحتياطي النقدي بالعملة الأجنبية
واستنزافه علي مدار السنوات، وهو ما يسميه الاقتصاديون العجز في ميزان
المدفوعات... فهانت قوة الشراء للعملة الوطنية، وارتفعت الأسعار بهذا الشكل
الجنوني لأننا نستورد أكثر مما نزرع أو نصنع... فتدهور حال المصريين وزادت قسوة
الحياة علي الأسر ذات الدخل الأقل. ومع كل هذا وذاك زادت البطالة، فالتشغيل وخلق
فرص العمل يقتضي بناء المصانع وتوسيع قاعدة المشروعات الصغيرة والمتوسطة سواء كانت
خدمية أو صناعية أو زراعية... الخلاصة أننا نحتاج إلي برنامج اقتصادي متكامل نعالج
به كل هذه المشكلات، فالأزمات السياسية والاجتماعية ستزداد وتتفاقم لو لم نعالج
مشاكلنا الاقتصادية بحسم...
دعونا نعترف، وهذه هي الخطوة الأولي للإصلاح الجذري... ليس لدينا
برنامج اقتصادي واضح الملامح. نعم... فشلت كافة الحكومات المتعاقبة - منذ ثورة 25
يناير - في وضع برنامج اقتصادي إصلاحي موضع التنفيذ... كل ما يطل علينا من آن لآخر
مجرد أفكار هنا وهناك، محاولات لإصلاح جزئية، تعامل مع المشكلات الاقتصادية بمنطق
اليوم بيومه... هذا ليس نقدا أو تجريحا أو تقليلا من المجهودات المبذولة، ولكنه
تحليل لواقعنا أياً كانت أسبابه ومبرراته، فهذه الأفكار المبتسرة والحلول الجزئية
والتعامل اليومي وليس التخطيطي مع مشكلاتنا الاقتصادية وما يترتب عليها من آثار
اجتماعية وسياسية سلبية؛ هي السبب فيما نحن عليه الآن، وهي المسئول الأول عن حالة
"الغموض" و"القلق" التي نعيشها، والتي يعبر عنها السؤال
المتكرر اليومي الذي نواجهه جميعاً: "هو احنا رايحين علي فين؟"،
"هو فيه أمل؟"، "أرجوك طمني؟"... هذه الأسئلة المتكررة من
المواطنين بكل طوائفهم - موظفين وعاملين وأصحاب مصانع وهكذا... ماحدش عارف بالضبط
إيه ملامح الإصلاح الاقتصادي، وما هي الخطوات القادمة بشأن السياسة المالية، أو
أسعار الطاقة، أو قضية الدعم، أو قواعد الاستيراد، أو التعامل مع العملة الأجنبية،
وسعر الجنيه، أو الموقف الضريبي وأسعار الضرائب، أو ماذا نحن فاعلون مع السياسات
الصناعية وخاصة مستلزمات الإنتاج المحلي... كل هذا غامض وغير معروف وغير واضح،
فعنوان سياستنا الاقتصادية هو "الغموض" أو "عدم اليقين" Uncertainty، وهذا الغموض أو عدم الوضوح هو العدو رقم (1)
لأي تطوير أو تنمية... هذا الوضع أشبه في حياة الشعوب بحالة "اللا سلم واللا
حرب"... استمرار الوضع علي ما هو عليه كارثي، يجب أن نعلن عن برنامجنا
للإصلاح الاقتصادي، يجب أن نعلن عن البرنامج الزمني... السياحة مهمة، تحويلات
المصريين من الخارج ضرورية، ولكن الأهم من هذا وذاك هو الإصلاح الاقتصادي ووجود
صناعة مصرية قوية، وزراعة معتبرة.
في هذا السياق، تثور تساؤلات غامضة، هل مصر بصدد التفاوض مع صندوق
النقد الدولي لوضع برنامج إصلاحي للاقتصاد الوطني؟... هذا أيضاً مسألة في غاية
الغموض، بعض المسئولين يؤكدون نعم، والبعض لا يعرف، والبعض يقول لا!!... سبق لمصر
أن خاضت هذا البرنامج في عهد حكومة الدكتور/ عاطف صدقي، وكانت النتيجة إيجابية إلا
أننا لم نكمل المشوار، وتراجعنا عن الاستمرار في سياسة الإصلاح الاقتصادي، وعدنا
عام 2004 لنبدأ مشوار الإصلاح الاقتصادي، وبدأنا بهمة وجدية، وعدنا وتراجعنا
اعتباراً من عام 2008، ولم نسر في طرق متوازية للإصلاح تلتقي في نهاية المشوار،
وهي الإصلاح الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي والإصلاح السياسي، فكان الإصلاح
الاقتصادي علي حساب الإصلاحين السياسي والاجتماعي، فتعطلت مسيرة الإصلاح علي كافة
الجوانب بنهاية عام 2009، ولازلنا ندفع الثمن حتي الآن... خضنا بعد "25
يناير" جولتين من المفاوضات مع الصندوق لم يكتملا... في رأيي لأسباب سياسية،
لم ترد الحكومات المؤقتة أن تتحمل الثمن السياسي!!
في رأيي الشخصي أن البدء الآن في برنامج إصلاحي مع صندوق النقد - رغم
كل ما قد يصيبني من انتقادات - يصب في مصلحة مصر بشرط أن تكون عنصراً فاعلاً في
وضع البرنامج ومؤمنين بنتائجه الإيجابية، ومستوعبين لمخاطر فشله، وقادرين علي
تطبيقه... أهمية البرنامج هو عودة الانضباط إلي الاقتصاد المصري ومؤسساته. ويجب أن
يكون واضحاً لدي الجميع أن البرنامج الإصلاحي الاقتصادي هدفه هو تحقيق العدالة
الاجتماعية، فإذا كان من شأن أي برنامج اقتصادي المساس بالعدالة الاجتماعية فلا
داعي له. ولكن يجب أن يكون معلوماً أن أية خطوة إصلاحية حقيقية سيكون لها ثمن
سياسي واجتماعي علي المدي القصير، ويمكن الحد من هذه المخاطر بتخطيط جيد، وحوار
مجتمعي حقيقي ومحترم، وشفافية عالية، وهدف ورؤية واضحة وخطط زمنية معلنة، وأهداف
جزئية محددة... عندها فقط ستكون إجابتنا علي السؤال المحير "إحنا رايحين
فين؟" هي: "احنا ماشيين في الطريق الصحيح، وسيكون غداً أفضل".
0 التعليقات:
إرسال تعليق