الخميس، 29 سبتمبر 2016

النمو أم التنمية.. أم الاثنان معاً ؟

جريدة الاخبار - 29/9/2016

قرأت  بالأمس مقالاً مهماً للمهندس أحمد عز - الرئيس الأسبق للجنة الموازنة بمجلس الشعب بجريدة المصري اليوم. المقال خلاصته أن الواقع الاقتصادي الحالي في مصر لا يدعو للتشاؤم، وأن الأزمة الحالية ليست الأزمة الاقتصادية الأولي في تاريخ مصر الحديث، وليست الأزمة الأكبر. وعلي سبيل المثال فإن عجز الموازنة الحالي 12%، في حين أنه في منتصف الثمانينيات قد بلغ 18%، وأنه في عام 2002 قد بلغ 23%. أي أن وضعنا الاقتصادي - وفقاً لكاتب المقال - أقل خطورة وسوءاً الآن مما كنا عليه في هذه الفترات. ويضرب كاتب المقال مثالاً آخر للتدليل علي وجهة نظره؛ منها أن نسبة الدين بلغت الآن حوالي 100% من الناتج القومي، في حين أنه في عام 1988 قد تجاوز حجم الدين 212%، وأن نسبة الدين قد بلغت 103% في عام 2003. ويري الكاتب أن الأمر علي هذا النحو لا يدعو إلي التشاؤم، بل هناك إمكانية لتحسين الوضع الاقتصادي بشرط اتباع سياسات تركز علي (النمو(Growth، وأن النمو الاقتصادي المستدام كفيل بتجاوز هذه المشكلات، ولا داعي للانزعاج المبالغ فيه.


وأود في هذا السياق أن أبدي بعض الملاحظات... الملاحظة الأولي: أن الخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية ممكن وليس مستحيلاً فمقومات الاقتصاد المصري وفرص النمو جبارة. وكما ذكرت من قبل تكراراً ومراراً فإن مصر من أكثر الاقتصاديات المؤهلة للنمو والنهوض، وأن فرص الاستثمار فيها هائلة. وأما الملاحظة الثانية أنه في رأيي الذي يدعو للانزعاج ليس في الأزمة الاقتصادية، وإنما في كيفية مواجهتنا الأزمة الاقتصادية علي مدار الأعوام الماضية. فالغموض الذي يشوب عملية الإصلاح الاقتصادي والتوجه الاقتصادي وكيفية التعامل مع الأزمة هو الأزمة ذاتها،وهو الذي خلق مناخاً تشاؤمياً وانزعاجاً، فالواقع الاقتصادي ليس هو الأزمة، وإنما التعامل معه وغياب الرؤية هو الأزمة الحقيقية. وأما الملاحظة الثالثة فهي أن الأزمة الاقتصادية الحالية مصحوبة بأزمة اجتماعية أكثر ضراوة وصعوبة عما سبق في تاريخنا المعاصر، إذ انعكست هذه الأزمة الاقتصادية علي التنمية الاجتماعية، بمعني أن المشكلة الحقيقية التي تحتاج إلي تعامل عاجل هي الأزمات الاجتماعية التي تفاقمت نتيجة الوضع الاقتصادي، فمعدل البطالة زاد بشكل غير مسبوق بحيث تجاوز نسبته الـ15%، وزاد بين الشباب، وهو الأمر الذي لم يكن قائماً في ظل أزمة الثمانينيات، ولا في ظل أزمة نهاية التسعينيات. نفس الأمر ينطبق علي معدل الفقر، فقد زاد هذا الأخير عن نظيره في حقبة الثمانينيات والتسعينيات حيث وصل إلي 25% تقريباً. وهذه المؤشرات الاجتماعية هي الأخطر والتي تجعل التعامل مع التنمية أكثر ضرورة، ونفس الأمر ينطبق علي معدلات التضخم وزيادة الأسعار.

وأما الملاحظة الرابعة فهي أن النمو الاقتصادي قد يؤدي إلي الخروج من الأزمة الاقتصادية كما حدث خلال الفترة من عام 2004 إلي عام 2010، ولكنه لا يكفي وحده للخروج من الأزمة الاجتماعية الطاحنة التي تؤثر علي خدمات الصحة والتعليم والمرافق العامة. فالخروج من الأزمة يحتاج إلي نمو وتنمية معاً في ذات الوقت. فالنمو الاقتصادي عام 2004 لم يكن كافياً للخروج من الأزمة الاجتماعية، فالإصلاحان الاقتصادي والاجتماعي يجب أن يكونا في مسارين متلازمين.

وأما الملاحظة الخامسة أن ما فعلناه من عام 2004 إلي عام 2010 كان إصلاحاً يركز علي الهيكل الاقتصادي وتحقيق النمو. وكان هذا الإصلاح فلسفته تعتمد علي أن النمو الاقتصادي المستدام ضرورة لتعظيم الإيرادات العامة للإنفاق علي الإصلاح الاجتماعي في مرحلة لاحقة. وهو الأمر الذي لم يتحقق بشكل كامل.

أما الملاحظة السادسة فهي أن الرئيس السيسي قد بدأ فترته الرئاسية الأولي وعينه علي الإصلاح الاجتماعي والتنمية الاجتماعية أكثر من النمو والإصلاح الاقتصادي، حرصاً منه علي التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية علي الطبقة الأكثر تأثراً بالأزمة، فزاد الإنفاق العام والحكومي علي الخدمات العامة، وزاد التدخل الحكومي علي حساب الاستثمارات الخاصة والنمو الاقتصادي، وهو ما استوجب التوسع في الاستدانة الداخلية والاقتراض الخارجي، وزاد من العجز في الموازنة، ولم يتمكن من خفض معدل البطالة أو الفقر وإن حد من بعض آثاره السلبية من خلال دعم شبكات الضمان الاجتماعي والسلع الأساسية.

وأما الملاحظة السابعة فهي أننا نحتاج إلي تغيير في التوجه الاقتصادي، فيجب أن يكون هدف سياسات الإصلاح هو النمو من أجل التنمية. وبعبارة أخري التنمية الشاملة تعني النمو + التغير إلي الأفضل في التعليم والصحة وتكافؤ الفرص والخدمات العامة. والتنمية لكي تتحقق يجب أن تسبقها إصلاحات اقتصادية واجتماعية بشكل متزامن وليس بشكل متتابع. ولنأخذ تجربة الهند في النمو والتنمية بعين الاعتبار، فالهند قد بدأت خطتها الإصلاحية في نهاية الخمسينيات لمدة ثلاثة عقود متتالية حتي نهاية الثمانينيات، وكان تركيزها علي التنمية الاجتماعية كما نفعل الآن في مصر علي مدار العامين الماضيين. وعلي الرغم من سياسات التنمية ومحاولات تحسين الخدمات العامة لم تحقق الهند سوي متوسط 3.5% سنوياً كمعدل للنمو الاقتصادي علي مدار ثلاثين عاماًوكانت مظاهر الاقتصاد في ذلك الوقت زيادة السيطرة علي الاستثمارات الخاصة من قبل الحكومة، وزيادة نمو دور الحكومة والقطاع العام في الاستثمارات، والتدخل المبالغ فيه في الحد من الاستيراد دون زيادة الصادرات، ووجود مناخ غير ملائم للاستثمار الخاص. وهو ما أدي بالهند إلي تبني سياسة مختلفة اعتباراً من بداية التسعينيات تقوم علي رفع معدل النمو الاقتصادي واستخدامه للتشغيل وخفض معدلات الفقر وتحسين الخدمات الاجتماعية، ولم يتحقق ذلك إلا بحزمة سياسات إصلاحية سبقت النمو تقوم في مجملها علي تشجيع الاستثمار الصناعي والزراعي والخدمي، وخلق مناخ إيجابي للاستثمار من خلال إزالة معوقات التصنيع، وجعل الهند أكثر قدرة تنافسية عالمياً من خلال تسخير المقومات البشرية والطبيعية لديها، واستخدام التكنولوجيا الحديثة، والترحيب بالاستثمار الأجنبي للإسراع بالتنمية، وتشجيع التصدير، وخلق قيمة مضافة للاقتصاد الهندي بهدف رفع معدلات التشغيل والحد من معدلات الفقر الرهيبة وإرساء مجتمع أكثر إنسانية وتحضراً، واستفادت من جودة التعليم، والكفاءة المرتفعة نسبياً لمؤسساتها الحكومية.

والآن لدي الهند أكبر معدل للنمو في العالم (8% تقريباً)، أكثر من الصين، وأكبر معدلات في تحسين مستويات الخدمات العامة والتنمية الاجتماعية. هذا هو ما نحتاجه بالضبط في مصر الآن. والبداية هي وضع سياسات إصلاحية واضحة للجميع تستهدف التنمية الشاملة. هذه السياسات حتي الآن غير واضحة، وهذا هو سبب الانزعاج، فالغموض وعدم الثقة في برنامج الإصلاح يؤدي إلي التشاؤم... ولكننا لا نزال قادرين علي وضع خطة إصلاح متكاملة وتنفيذها، وقد بدأت تظهر بعض ملامحها في الأسابيع الماضية وهذا هو سبب التفاؤل. النمو الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي هما مساران متلازمان، فالنمو الاقتصادي شرط للتنمية الاجتماعية وتحسين حالة المواطن المصري، والإصلاح الاجتماعي شرط لاستمرار النمو وتحقيق الاستقرار السياسي. اللينك

استمع الي المقال على ساوند كلاود.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق