الأحد، 19 أغسطس 2012

أزمة الرقابة على القطاع المالي غير المصرفي

مجلة السياسى- 19/8/2012

إتصل بي عدد من ممثلي شركات سوق المال والشركات المقيدة بالبورصة خلال الأسبوعين الماضيين يشكون مما قامت به هيئة الرقابة المالية من إحالة أكثر من 630 قضية إلى النيابة العامة للشئون المالية، وذلك في أسبوع واحد، فالهيئة قررت مؤخراً إلى إحالة عدد من الشكوى إلى النيابة العامة قبل فحصها من قبل الهيئة.


وقد تأكد ذلك فى تصريح لرئيس الهيئة لجريدة الأهرام الأسبوع الماضى كشف أن حوالى 60% من الشكاوى التى تم إحالتها الى النيابة العامة لم يتم فحصها من قبل الهيئة.

 وقد أزعجني هذا الأمر بشكل كبير لأنه يعني أن الهيئة قد قررت أن تتخلى عن دورها الرئيسى، كما أزعجتني أيضاً طريقة التعامل مع القضايا الاقتصادية.

إن هيئة الرقابة المالية هى الجهة المنوط بها الرقابة على القطاع المالي غير المصرفي، ويشمل سوق المال والبورصة والتأمين والتمويل العقاري والتأجير التمويلي، وغيرها من أنشطة التمويل غير المصرفي. فهو قطاع حيوي للاقتصاد القومي، ويضم آلاف العاملين، ويتعلق باستثمارات بآلاف المليارات من الجنيهات. والهيئة العامة للرقابة المالية مسئولة عن اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة للحد من المخاطر غير التجارية للقطاع المالي غير المصرفي وحماية المستثمرين فيه، كما أنها مسئولة كذلك عن دعم هذا القطاع وتطويره. ولا يقل دور هذه الهيئة أهمية عن البنك المركزي المصري، وهو الجهة المنوط بها الرقابة على القطاع المالي المصرفي (البنوك) ووضع السياسة النقدية. وفي العديد من الدول الناطقة باللغة الإنجليزية، فإن مسئولية الرقابة على القطاع المصرفي أسندت إلى هيئات الرقابة المالية وليس البنك المركزى، وهو ما يدل على أهمية تلك الجهة الرقابية.

وللأسف الشديد، فإن مسلك الهيئة الأخير وما دأبت عليه خاصة بعد ثورة 25 يناير من إحالة القضايا الاقتصادية الخاصة بالقطاع المالى غير المصرفى إلى النيابة العامة دون فحص أو تمحيص أو دراسة متأنية له دلالات في منتهى الخطورة وآثار سلبية هائلة على هذا القطاع، وهو ما يقتضي وقفة جادة في هذا الشأن.

فهذا المسلك يعني تخلي الهيئة عن الدور الذي أناطه بها القانون، فقانون هيئة الرقابة المالية - شأنه في ذلك شأن قانون البنك المركزي المصري- لا يجيز تحريك الدعوى الجنائية في قطاع القطاع المالي غير المصرفي إلا بناءً على طلب رئيس هيئة الرقابة المالية. وهو ما يعنى أنه لا يجوز تحريك أي دعوى جنائية تتعلق بالقطاع إلا بعد دراسة متأنية من الهيئة وفحص، فإحالة الدعاوى الجنائية للنيابة العامة دون دراسة داخل الهيئة يعني ولا شك تتخلي الهيئة عن مسئوليتها القانونية. وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلاً.

 كما أن إحالة كافة القضايا الاقتصادية المالية إلى النيابة العامة دون إخطار أطرافها أولاً بالمخالفة ومنحهم مهلة لإزالتها أو التصالح بشأنها فيه كذلك إخلال بفلسفة القانون، والتي تجيز التصالح على هذه  المخالفات حتى بعد صدور حكم نهائى فى الدعوة ويتعارض هذا السلوك أيضاً مع مبادئ العدالة ويهدر مبدأ المواجهة فيفاجأ الشخص المعني بإحالته إلى النيابة العامة ثم إلى المحاكمة دون إجراء أي تحقيق ودون مواجهته بالمخالفات المنسوبة إليه، ودون منحه مهلة لإبداء وجهة نظره ودفاعه، ودون إعطائه مهلة لإزالة المخالفة، أو التصالح، فكل هذا إهدار للمال والوقت، والأهم إهدار للعدالة.

أن هذا الكم من القضايا المحالة في أسبوع واحد يعادل ما تم إحالته من قضايا على مدار عامين أو أكثر، وذلك دليل على الفشل الذريع للرقابة المالية. فالرقابة المالية الحديثة تقوم فلسفتها على الرقابة الوقائية أي الرقابة المانعة لحصول المخالفات، فإحالة هذا القدر الكبير من المخالفات دليل على الفشل الرقابي الذي يستوجب الحد من ارتكاب المخالفات، وهو ما يسمى بالرقابة السابقة، أي رقابة الحد من المخاطر، فالرقيب دوره الرئيسى الحد من إرتكاب المخالفات، والحد من آثارها إن وقعت.

فى هذا الإطار يدور تساؤل مهم بشأن اعتبارات الملاءمة ومدى جدوى إحالة هذا القدر الكبير من القضايا مهما بلغت ضآلة قيمتها، ومهما انعدمت خطورتها الاقتصادية، ومهما انخفضت جسامتها. أليس في إحالة هذه القضايا دون إجراءات فحص مسبقة إرهاق شديد للنيابة العامة دون مبرر، أليس في ذلك مضيعة للوقت والمال وما يستوجبه من تعيين لخبراء ومحامين في قضايا تافهة القيمة ولا تمثل أية جسامة. إن لعب دور المحولجى من قبل الرقيب من باب راحة البال، هو تخلي عن المسئولية القانونية، وإلقاء عبء غير ضروري على القضاء والنيابة، ونوع من الاستسهال في هذه الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة، وهو مصيبة ودلالة على عدم إدراك لخطورة الموقف. وأتساءل هل تدرك  الهيئة التكلفة المالية والإدارية والآثار الوخيمة لهذا السلوك، فالجميع يعلم أن أكثر من 50% من الشركات العاملة في هذا القطاع، وبخاصة سوق المال قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، وأنها مهددة بالتوقف عن النشاط وهو ما يهدد قوت الآلاف من العاملين في هذا القطاع حيث بلغ حجم التداول في سوق المال إلى أدنى مستوياته منذ أكثر من عشر سنوات، فهل من الملائم في هذا التوقيت العصيب أن نضيف أعباء على أعباء دون دراسة، هل يتفق مع مقتضيات حسن إدارة الأزمات أن يكون الرقيب عبئاً إضافياً على السوق، وجزءاً من المشكلة وليس جزءاً من الحل.

إن أداء الدور الرقابي الصحيح يستلزم المراجعة الكاملة للموقف، وإعادة النظر في كيفية معالجة الأمر، فأداء الدور الرقابي في هذه الظروف الحرجة يستوجب إعمال العقل والتدبر،إن فلسفة المعالجة للأزمة المالية والاقتصادية لا يكون عن طريق القانون الجنائي، فهذا أقرب ما يكون لسياسة إقحام الأمن لمواجهة مشكلات اجتماعية وتعليمية. وعلينا أن نتوقف عن ذلك فوراً.
رجاءً خاصاً للمسؤلين الحكومين والجهات الرقابية لا تكونوا جزءاً من المشكلة كونوا جزءاً من الحل، الأولى هو العمل على تقوية القطاع المالي غير المصرفي ودعمه في هذه المرحلة الحرجة والعمل على حل مشكلاته، والعمل الجاد على تفعيل الرقابة السابقة ومنع الضرر قبل وقوعه.

0 التعليقات:

إرسال تعليق