الخميس، 7 يناير 2016

شاهد عيان علي حريق فندق العنوان بدبي

جريدة الاخبار - 7/1/2016

الإدارة البيروقراطية تنظر إلي الشباب باعتباره عبئاً، والإدارة المتحضرة تتعامل مع الشباب باعتباره وتداً.

سافرت إلي دبي للعمل كمستشار قانوني ومدير لإحدي كبريات المجموعات التجارية بها عام 2002. كان عمري وقتها (36) عاماً، ومع ذلك لم يتعامل معي الرئيس التنفيذي للمجموعة باعتباري شاباً قليل الخبرة، فالرئيس التنفيذي للمجموعة - التي بلغ حجم تعاملاتها في ذلك الوقت أكثر من 20 مليار دولار أمريكي - كان هو ذاته لم يتجاوز عمره أربعين عاماً. فكان كل شيء في هذه المدينة في ذلك الوقت مفعما بالحيوية والنضارة والرغبة في تحقيق النهضة.

وأذكر أنه قبل أشهر قليلة من سفري إلي دبي في ذلك الوقت؛ تلقيت عرضاً من إحدي المؤسسات المالية الحكومية العربية، وكان مستشارها الاقتصادي وقتها اقتصاديا مصريا مرموقا صار بعد ذلك رئيساً لوزراء مصر. وحينما التقيت به - وكان عمري 35 عاماً - كانت وجهة نظره أنه لا يمكن تعييني مستشاراً قانونياً ورئيساً للإدارة القانونية للصندوق لأنني لاأزال صغير السن، وأنه سيقترح تعييني نائباً لرئيس الإدارة القانونية. وخرجت من مكتبه متخذاً قراري النهائي وأنا في طريقي للمطار للعودة أنه لا يمكن لي أن أعمل في هذا المكان، ورفضت عرض العمل المكتوب فور تسلمي له. هذا كان أول فارق اكتشفته بين عقلية الوظيفة الحكومية والإدارة المتقدمة، فالإدارة البيروقراطية تنظر إلي الشباب باعتباره عبئاً، والإدارة المتحضرة تتعامل مع الشباب باعتباره وتداً... الإدارة البيروقراطية تعود بنظرها إلي الماضي، وتضع الإدارة الحديثة أعينها علي المستقبل.

وبعد أن بدأت العمل في دبي؛ حدث التغيير العائلي السلمي، وتولي شئون الإمارة الشيخ محمد بن راشد بدلاً من أخيه الأكبر، وكان من الواضح أن هذا التغيير تم بمباركة من الشيخ زايد حاكم دولة الإمارات العربية المتحدة.


وكانت تلك هي البداية في نهضة شاملة اعتمدت رؤية قيادتها السياسية علي أن تكون دبي هي «سنغافورة العالم العربي» في أقل من عشر سنوات، وتم وضع أهداف وخطة محكمة لتحويل الحلم إلي واقع. وحينما كنت ألتقي ببعض المسئولين الحكوميين في دبي وكنت أتفاوض بشأن إنشاء عدد من الفنادق، فكانوا يقولون لي إننا نستهدف 5 ملايين سائح بحلول عام 2007، و10 ملايين في 2010، وهكذا... وكنت أستعجب؛ وما هي مقومات دبي لجذب السياحة؟ وكنت مخطئاً؛ فعملوا بجدية علي أن تكون دبي مزاراً للسياحة الترفيهية، وسياحة التسوق، وسياحة المؤتمرات، وهكذا...

وفي عام 2004 كان 80% من أوناش البناء في العالم كله موجودة في مدينة دبي، وتحولت مدينة دبي إلي موقع ضخم لأعمال البناء، وكان ابني - وعمره في ذلك الوقت حوالي 8 سنوات - يسألني وهو جالس إلي جواري في السيارة سؤالاً بريئاً: «بابا هما لسه بيبنوا دبي؟!»، وكان سؤالاً معبراً لأنه في تلك الفترة كانت بالفعل دبي تبني من أول وجديد بالمعني الحرفي للكلمة.

وكان من نتاج عملية التطوير العقاري؛ بناء منطقة في وسط دبي سميت بمنطقة «الداون تاون» أو وسط المدينة. وفي قلب هذا المربع أُنشئت أكبر نافورة راقصة في العالم يطل عليها أعلي مبني في العالم أطلق عليه اسم «برج خليفة». ويضم فندقا وشققا سكنية ومكاتب إدارية. وأحيط بالنافورة مجموعة كبيرة من المطاعم والكافيهات والفنادق المتصلة فيما بينها بكباري وأنفاق للمشاة والمتسوقين تقودهم إلي أكبر منطقة للتسوق في دبي. وصارت المنطقة السكنية المحيطة بنافورة دبي وبرج خليفة هي الأغلي ثمناً في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط في عام 2015. وقد شَهِدْتُ هذه المنطقة صحراء جرداء موحشة في عام 2002، وشَهِدْتُها علي ما هي عليه الآن عام 2016.

وها قد أصبحت منطقة «الداون تاون» من أكثر المناطق التي تعج بالزوار من شتي دول العالم، وأصبح هذا المربع الأكثر ازدحاماً ليلة رأس السنة، حيث يأتي إليه مئات الآلاف، ويقدر البعض العدد بـ2 مليون شخص يشهدون الألعاب النارية والنافورة الراقصة ليلة رأس السنة، وحيث تنطلق الألعاب النارية من برج خليفة. وصار العالم كله ينظر نحو هذا المربع ليتابع ما يدور فيه ليلة رأس السنة من احتفالات بتوديع عام 2015، والذي اتفق الكثيرون حول العالم أنه كان عاماً ثقيلاً يستوجب الاحتفال بمغادرته غير مأسوف عليه. وتنافس دبي في تلك الليلة أكثر مدن العالم شهرة مثل نيويورك ولندن وموسكو، وكانت الليلة الأخيرة في عام 2015 يتم الاستعداد لها في دبي لكي تكون الأكثر احتفاءً في العالم كله، وأكثر الألعاب النارية جذباً للعيون حيث تنطلق الألعاب النارية المتوهجة وترقص علي ألوانها وعلي الموسيقي المبهرة النافورة الراقصة.

ويبدأ الاستعداد للاحتفال بليلة رأس السنة في منطقة «الداون تاون» بشكل مختلف، ففي هذا اليوم يمنع دخول السيارات إلي المنطقة، وعلي مساحة لا تقل عن خمسة كيلومترات. فاعتباراً من الساعة الثالثة ظهر يوم 31 ديسمبر تتحول كافة الطرق المؤدية إلي منطقة الاحتفال إلي طرق للمشاة لا تسير فيه أية سيارة مهما كانت أهمية وحيثية صاحبها، وتترك مساحات وممرات واسعة لا يجوز المشي فيها أو الوقوف عندها حيث تسمح هذه الممرات بدخول وخروج سيارات الأمن والإسعاف والمطافئ دون أية عوائق حال حدوث ما يستدعي ذلك.

ومن الاستعدادات لهذا اليوم كذلك؛ أنه لا يسمح بالدخول للمطاعم المحيطة بالنافورة إلا لحملة تراخيص خاصة صادرة من بلدية دبي، فيجب الحجز مقدماً، وبعد الحجز يصدر لك ترخيص من البلدية تتسلمه، ولا يمكن الدخول إلي منطقة المطاعم إلا إذا كنت تحمل هذا الترخيص، والمسألة كلها لا تأخذ إلا دقائق قليلة ويتم تسليم الترخيص إليك في الفندق الذي تقيم به. ويهدف الإجراء إلي عدم تكدس المطاعم والمقاهي وما حولها، بحيث إذا حدث حادث لا قدر الله يمكن التعامل معه. وفي ذات اليوم كذلك يُسلّم الفندق لكل من يقيم فيه أسورة بلاستيكية يتم وضعها علي اليد، ولا يجوز التجول بدونها، ويكون لكل من المقيمين في أحد هذه الفنادق ممراً خاصاً بهم حتي لا تختلط أفواج المارة وحتي لا يحدث تزاحم.

وفي تمام الساعة 7.30 مساء تقريباً كان فندق «العنوان» يتلألأ، وكانت إضاءاته مبهرة، كان كل طابق من طوابقه الـ(52) المطلة علي النافورة الراقصة تتزين استعداداً للحفل الكبير. وبعد أقل من نصف ساعة تقريباً شاهدنا ما لم يكن من الممكن تصوره... فجأة اندلعت النيران من الفندق، وكان المنظر مرعباً، ففجأة تحولت الإضاءات المبهرة الرقيقة إلي كتلة من النيران، وكرات من اللهب، وتحولت الوجوه المتفتحة والابتسامات المنتشرة إلي وجوم وذهول اكتست بعدها هذه الوجوه بمظاهر الخوف والرعب... ولم يدم هذا الإحساس طويلاً، ولم تسمح الإدارة المنظمة بأية مظاهر للهلع أو الفوضي، ففي أقل من خمس دقائق - وكان الناس لايزالون ينظرون إلي الحريق وقبل أن ينتبهوا إلي خطورته - تم فتح منافذ الخروج من كافة المطاعم والفنادق المحيطة بالفندق المصاب، وتم إخلاء المربع بشكل منظم ومن مخارج محددة ومعروفة سلفاً، وفي دقائق معدودات وجد مئات الآلاف من المشاة أنفسهم في أقل من خمس دقائق بعيدين عن مكان الحريق بما لا يقل عن 500 متر. وظهر عشرات من المنظمين في لحظات، وبحركات كان من الواضح أنه تم تدريبهم عليها قبل ذلك بكثير. وشعر الجميع بالأمان بعد لحظات معدودات من القلق والخوف، ولم تحدث واقعة تدافع واحدة. وانتابني القلق علي كبار السن والأشخاص المقعدين علي كراسي متحركة؛ ماذا سيحدث لهم؟ ولم تطل حيرتي فوجدت عشرات بل مئات سيارات الجولف الخفيفة تحمل كبار السن والمقعدين وتنقلهم، ولم يكن هناك أي عائق لتحرك هذه السيارات، ونقل الجميع بأمان.

وبدأت تتحرك في رأسي أفكار سيئة عما يكون قد حدث لبعض أصدقائي المقيمين في الفندق المحترق، وبدأنا الاتصال للاطمئنان عليهم، ولم أكن متفائلاً فالحريق التهم 52 طابقاً في أقل من نصف ساعة، إلا أنه ولله الحمد كان الجميع بخير، وتم إخلاء كل من في الفندق بسلام، حيث كان يقدر المقيمون بالفندق وقت الحريق بحوالي 3600 شخص، ولم تحدث حالة وفاة واحدة.

وفي تمام الساعة العاشرة والنصف مساءً، ورغم استمرار الحريق، بدا أن كل شيء قد تمت السيطرة عليه، وكانت المفاجأة أن الاحتفال وإطلاق الألعاب النارية في موعده. وهنا ثار التساؤل بين عدد من الأصدقاء المصريين حول سلامة هذا القرار... وقد كنت شخصياً أري أن هذا القرار في منتهي الشجاعة والحكمة في ذلك الوقت، وأنه دلالة قاطعة علي أن الأمور تحت السيطرة. وقلت لأصدقائي أن في هذا دليلا آخر في رأيي؛ أنه لم تحدث حالات وفاة، لأنه لو حدث ذلك ما كان الشيخ محمد بن راشد سيتخذ القرار باستمرار الاحتفال.

وكان في هذه الحكاية درس بليغ يخص علم إدارة الأزمات، فإدارة الأزمة ليست رد فعل، بل هي إدارة للمخاطر يبدأ بتوقع الأزمة والاستعداد لها جيداً، والتدرب عليها وكيفية مواجهتها، فمتي حدثت تم التغلب عليها بسهولة. وقد يَرُدّ البعض ويقول إن ما حدث في دبي من نهضة أو قدرة علي إدارة الأزمات سببه توفر المال الغزير، وأنه لو لدينا نصف هذا المال لحققنا نجاحات أكثر إبهاراً... وأقول لهؤلاء إن النجاح سببه حسن الإدارة، فكثير من الدول معها أضعاف هذه الأموال في منطقتنا العربية وفي أمريكا اللاتينية من الدول المنتجة للنفط، ولم تحقق نفس الدرجة من الرخاء والعدالة الاجتماعية لمواطنيها، لم تحقق ذات التقدم والتطور السريع الذي نجحت فيه دبي، فمفتاح التقدم هو الإدارة الناجحة والرؤية السياسية الواضحة التي تعتمد علي جهاز تنفيذي كفء.

مشكلتنا في مصر ليست في ضعف الموارد المالية؛ ولكن في سوء استغلال مواردنا البشرية المتاحة، وهي عظيمة. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق