الخميس، 14 يناير 2016

جمود الفكر وفكر الجمود: وجهان لعملة واحدة

جريدة الاخبار - 14/1/2016

هذه سابقة خطيرة ونذير سوء، وضربة للديمقراطية في مقتل من نواب الشعب.

1- إن قرار البرلمان المصري بوقف البث المباشر يتعارض مع مبدأ الشفافية، ويتعارض مع مبدأ علانية الجلسات الذي أقره الدستور، ويتعارض مع كافة السوابق البرلمانية داخل مصر وخارجها، ويتعارض مع أبسط قواعد الديمقراطية، ويتعارض مع حرية التعبير والرأي... فأول قرار لنواب الشعب هو تحويل البرلمان إلي برلمان سري، وحجب مناقشاته عن الشعب بشكل أو بآخر. قرار آخر للمجلس تداولته الصحف وهالني ما جاء فيه؛ وهو أن رئاسة اللجان المتخصصة - بشكل مؤقت بغرض مناقشة القرارات الرئاسية بقوانين - تم إسنادها إلي أكبر الأعضاء سِنّاً بكل لجنة!! رئاسة الجلسة الإجرائية أمر مفهوم، أما رئاسة اللجان وتسيير عملها ومناقشاتها الموضوعية لقوانين صدرت فهذا أمر آخر يجب أن تكون العبرة فيه بالكفاءة الفنية ودرجة التخصص وليس بالسن... هذه سابقة خطيرة ونذير سوء، وضربة للديمقراطية في مقتل من نواب الشعب!!

2- عند صدور حكم قضائي بحبس «إسلام بحيري» أصدرت تغريدة بأن حرية الفكر يجب ألا تواجه بالحبس، وقد هالني حجم السباب الذي تلقيته، وسوء الأدب والحوار. وبعيداً عن قضية إسلام بحيري؛ فإنه شتان الفارق بين حرية الاجتهاد وازدراء الأديان، فالثورة علي جمود الفقه ومدارس التقليد أمر واجب لحماية الدين. وأنا أتابع هذه المناقشات تذكرت العبارة الخالدة للإمام «محمد عبده» عميد المجددين في القرن الـ(19) حينما وصف الحالة بـ»جمود المسلمين» لا جمود الإسلام. وحينما قال بأن أخطر ما أصاب المسلمين هو جمود الفقه والعقل؛ وأن ذلك كان السبب الرئيسي في تردي حال المسلمين وانهيار علومهم.

أذكر أصحاب العقول الجامدة، والأصوات الحنجورية بما قاله الإمام «محمد عبده» بضرورة «تحرير الفكر من قيد التقليد... والنظر إلي العقل باعتباره قوة من أفضل القوي الإنسانية بل هي أفضلها علي الحقيقة». وكان الإمام محمد عبده ذاته هدفاً للهجوم من قبل التقليديين والمقلدين... لا شك أنه آن الأوان للمصلحين أن يجاهدوا - كما جاهد الإمام «محمد عبده» والشيخ «علي الخفيف» والعلامة «أبو زهرة» والشيخ «مصطفي عبد الرازق» في القرنين التاسع عشر والعشرين - وأن ينتفضوا لتنقيح الفقه الإسلامي وتجديده، فعلي حد تعبير الشيخ الإمام «محمد عبده» فإنه «كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم، ويسبح به في الأرض، ويصعد به إلي أطباق السماء ليقف به علي أثر من آثار الله... فكانت جميع الفنون مسارح للعقل تقتطف من ثمارها ما تشاء... فلما وقف الدين وقعد طلاب اليقين؛ وقف العلم وسكتت ريحه».

لقد طال أمر هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه، وولع شهواتهم بالدفاع عنه، وقد حدثت عنه مفاسد كثيرة، الإرهاب والقاعدة وطالبان والداعشيون من شواهدها. الجمود في الفقه الإسلامي، والتقليد في الفكر الديني علّة يجب أن تزول. يجب أن يجاهد حفدة العلم ضد حفدة الجهل، يجب أن يعمل أعوان الأمل علي مجابهة أعوان اليأس، لقد منحنا الله العقل لننظر في الغايات والأسباب والمسببات، فجمود الفقه والإفراط في التقليد هو إنكار للعقل الذي منحنا الله إياه.

الأزهر الشريف يجب أن يكون في قلب الإصلاح المؤسسي لمصر، وأُذكِّر شيخ الأزهر إمامنا الشيخ الطيب بما قاله الإمام «محمد عبده» بشأن إصلاح الأزهر منذ ما يزيد علي مائة عام: «إن بقاء الأزهر متداعياً علي حاله في هذا العصر محال... فهو إما أن يُعمَّر وإما أن يتم خرابه. وإني أبذل جهد المستطيع في عمرانه، فإن دفعتني الصوارف إلي اليأس من إصلاحه فإنني لا أيأس من الإصلاح الإسلامي».

3- علي الرغم من رياح الجهل، وأعاصير تكميم الأفواه، وظلمات العقول التي نشهدها... لاتزال هناك شموع تضاء لنا في طريق الإصلاح. وأحد هذه الشموع حكم قضائي صدر في 6 يناير عام 2016 من محكمة استئناف القاهرة بدائرتها السابعة التجارية، وبعيداً عن وقائع القضية التي تتصل ببطلان حكم تحكيم؛ أكدت المحكمة علي قيمة حرية الرأي وحق النقد، وأن التعبير عن الرأي في صوره المختلفة لا يمكن أن يشكل خطأً قانونياً في ذاته.

اسمحوا لي قرائي الكرام أن أشارككم في قراءة بعض سطور هذا الحكم القضائي الذي يجب أن تضعه السلطتان التشريعية والتنفيذية نصب أعينهما، فتقول المحكمة تأكيداً لأحكام المحكمة الدستورية:»... إن حرية التعبير عن الآراء والتمكين من عرضها ونشرها سواء بالقول أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير إنما تتقرر في الدستور بوصفها الحرية الأصل «الأم» التي لا يتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها، ذلك أن ما تتوخاه الدساتير من ضمان حرية التعبير هو أن يكون التماس الآراء والأفكار وتلقيها عن الغير وإليه بقصد أن تترامي آفاقها وأن تتعد مواردها وأدواتها سعياً لتعدد الآراء وإرساء قاعدة من حيدة المعلومات ليكون ضوء الحقيقة مناراً لكل عمل. لذلك فإن حرية التعبير تمثل في ذاتها قيمة عليا لا تنفصل الديمقراطية عنها».

وأكدت المحكمة أن نقد الشئون العامة وتبيان أوجه التقصير في عمل السلطة جزء لا يتجزأ من حرية التعبير التي حماها الدستور، وأنه لا يجوز أن يكون صوت السلطة هو الصوت الوحيد الذي يعبر عن الرأي العام والمجتمع، فتقول المحكمة نقلاً عن المحكمة الدستورية العليا بأن: «حرية التعبير... أبلغ ما تكون أثراً في مجال اتصالها بالشئون العامة وعرض أوضاعها تبياناً لنواحي التقصير فيها بما يحول بين السلطة وفرض وصايتها علي العقل العام وأن لا تكون معاييرها - معايير السلطة - مرجعاً لتقييم الآراء التي تتصل بتكوينه - العقل العام - ولا عائقاً دون تدفق الآراء، لذلك لم يعد جائزاً تقييد حرية التعبير وتفاعل الآراء التي تتولد عنها بأغلال تعوق ممارستها سواء من ناحية فرض قيود مسبقة علي نشرها أو من ناحية العقوبة اللاحقة التي تفرض قمعها».

وتختتم المحكمة حكمها بشأن حماية حرية التعبير بكلمات من نور، أكدت فيها أيضاً علي ما رددته المحكمة الدستورية في كثير من أحكامها بقولها إن: «حرية التعبير... تفقد قيمتها إذا حجبت الآراء، ويعطل تدفق الحقائق التي تتصل باتخاذ القرار... ذلك أن الانعزال عن الآخرين يؤول إلي استعلاء وجهة النظر الفردية وتسلطها، ولعل أكثر ما يهدد حرية التعبير في مجال عرضها أو نشرها -أن يكون الإيمان بها شكلياً أو سلبياً - بأن تصير عبارة بلا معني أو ضرورة، بل يتعين أن يكون الإصرار عليها قبولاً بتبعاتها وألا يفرض أحد علي غيره صمتاً ولو بقوة القانون».

أرجو مخلصاً من الدكتور علي عبد العال رئيس مجلس النواب - وهو أستاذ القانون الدستوري - أن يتأمل الكلمات السابقة التي سطّرها الحكم القضائي - الذي هو عنوان الحقيقة حسبما تعلمنا في كلية الحقوق. نعم هناك من يتربص ويتحرش بمؤسسات الدولة، ويتمني سقوطها، ولكن مواجهة ذلك لن تكون بحجب البث، ولا بحجب الآراء المعارضة، ولا بالكفر بتعدد الآراء، وبحرية التعبير، فالمواجهة تكون من الداخل من خلال إصلاح ما في مؤسساتنا من عيوب بما فيها مؤسساتنا التشريعية والتنفيذية، بل والقضائية، وإصلاح الخلل في ممارساتنا الخاطئة... نعم هناك أزمة في الإعلام، المشكلة ليست في مبدأ حرية التعبير، ولكن الأزمة في أن من يمارس الإعلام ليس متخصصاً، وأنه لا توجد قواعد للسلوك ولا للممارسة المهنية، ولا ضوابط لمباشرة العمل الإعلامي فالقصور عند أبناء المهنة ومنها نقابة الصحفيين وغرفة الإعلام... الإصلاحين المؤسسي والتعليمي هما الحل. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق