تواترت الأخبار خلال الأيام الماضية عن بدايات هجرة جماعية من الكفاءات الشابة والقيادات التنفيذية العاملة بالبنك المركزي والبنوك العامة. وطبقاً لما نشر ببعض مواقع الصحف القومية فقد بلغ عدد المهاجرين خلال الشهرين الماضيين إلي البنوك الخاصة أكثر من 164 قيادة تنفيذية –لا شك ستزيد الشهور المقبلة. ولعل أبرز الاستقالات؛ استقالة نائب محافظ البنك المركزي، ونائب رئيس بنك مصر، ونائب رئيس البنك الأهلي. ويجمع بينهم جميعاً أنه مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والبراعة في أداء أعمالهم، إضافة إلي حسن الخلق والقدرة علي التواصل مع العاملين. كما يجمع بين هؤلاء المستقيلين أنهم جميعاً ينتمون إلي جيل الوسط، فتتراوح أعمارهم بين الأربعين والخمسين عاماً،وكلهم ينتمون إلي كتيبة الإنقاذ التي استعان بها محافظ البنك المركزي السابق د/ فاروق العقدة عام 2004 لإصلاح القطاع المصرفي وخاصة البنوك العامة واستقدمهم من البنوك الخاصة في مصر وخارجها. ولكي نستشعر خطورة الموقف، أذكر حضراتكم بأنه بحلول عام 2003 كان هناك أكثر من عشرين بنكاً مصرياً في حكم البنوك المفلسة، وكان القطاع المصرفي يعاني من تدهور كبير رغم أنه يعد القلب النابض لجسم الاقتصاد. فقاد الدكتور/ فاروق العقدة عام 2004 حملة إصلاح شاملة للقطاع المصرفي جوهرها جذب أفضل العناصر والكفاءات العاملة بالقطاع المصرفي داخل مصر وخارجها إلي البنوك العامة من خلال إعادة هيكلة الرواتب والمكافآت داخل البنوك العامة وقبل الكثيرون الانضمام إلي كتيبة العمل بأقل من 30% أو40% من نظرائهم في البنوك الخاصة لدعم خطة الإصلاح، ولدوافع وطنية ومهنية. وكانت النتيجة مذهلة، ففي عام 2009 وفي خضم الأزمة المالية العالمية؛ كان القطاع المصرفي المصري هو الأكثر سلامة ومتانة علي مستوي العالم لم تسبقه سوي سنغافورة. وتحسن الوضع داخل البنوك العامة فوصلت فجوة المخصصات بالبنوك الكبري الثلاث (الأهلي ومصر والقاهرة) إلي صفر بعد أن كانت 53 مليار جنيه في عام 2003. وزادت أرباحهم الحقيقية إلي 8 مليارات في عام 2014 بعد أن كانت 500 مليون جنيه في عام 2003، وتضاعف حجم الودائع بالبنك الأهلي علي سبيل المثال إلي 300% والقروض إلي150% بالمقارنة بما كان عليه الوضع في عام 2003. وارتفعت حقوق الملكية للدولة بهذه البنوك إلي 25 مليار جنيه. إن المسئول الأول عن هذه الهجرة الجماعية هو وضع سقف نقدي علي المرتبات بالبنوك العامة والبنك المركزي اعتباراً من شهر يوليو الماضي. وهو الذي أدي إلي أن أصبحت مرتبات بعض القيادات التنفيذية أقل من نصف تلك المرتبات التي كانوا يحصلون عليها منذ عشر سنوات عند انضمامهم إلي البنك أول مرة!! كما أن هذا السقف النقدي يعني توقف سقف الطموح، ويعني كذلك انخفاض معدل مرتبات الصف الأول والثاني والثالث من القيادات التنفيذية إلي أكثر من 60% مقارنة بنظرائهم في البنوك الخاصة. كما أن تخفيض المرتبات بأكثر من 50% أو 70% في عدد من الحالات يعني أزمة إجتماعية لكثير من هؤلاء وذويهم، إذ أنهم رتبوا حياتهم علي دخل معين، وفجأة انقلبت حياتهم رأساً علي عقب بخسارة أكثر من نصف دخولهم، زادت التزامات البعض المالية والأقساط الشهرية عن دخولهم، وهو ما يعرض بعضهم للدخول إلي السجن، ومن ثم لم يكن لديهم بديل سوي الرحيل والبحث عن فرص عمل أفضل. وفي رأيي أنه يجب إعادة النظر في سياسة وضع سقف نقدي داخل البنوك العامة والبنك المركزي، لوقف نزيف الهجرة والانهيار المحتوم لهذه المؤسسات، وضرورة الحفاظ علي النجاحات المؤسسية لهذا القطاع ليكون داعماً للنمو الاقتصادي وليس عبئاً عليه كما كان الحال منذ عشر سنوات. إن وضع سقف نقدي للمرتبات داخل البنوك العامة -وهي بنوك تجارية في المقام الأول والأخير، وإن كانت مملوكة للدولة- يخالف نص المادة (27) من الدستور المصري والذي قصر الحد الأقصي علي العاملين في «أجهزة الدولة».ولاشك أن البنوك التجارية لا تعد من أجهزة الدولة. وفي رأيي أن عرض هذه المسألة علي رئيس الجمهورية لم يكن عرضاً أميناً ومنصفاً، فالمنشآت التجارية -ومنها البنوك التجارية العامة-يجب أن تكون عنصراً جاذباً للكفاءات. ولا يتصور منطقاً ولا عقلاً أن يكون السقف النقدي لمرتب رئيس بنك لديه ودائع بأكثر من 400 مليار جنيه ومسئول عن تحقيق أرباح للدولة سنوياً بما لا يقل عن أربعة مليارات جنيه، هو ذات السقف النقدي لمؤسسات لا تزيد ميزانيتها وحجم أعمالها عن 20 مليون جنيه. لست ضد تطبيق الحد الأقصي للأجور ولكن يجب أن يراعي في ذلك مستويات الحد الأدني داخل ذات المؤسسة وطبيعة نشاطها والكفاءات المطلوبة لها وقدر المنافسة المحيطة بهذه المنشأة. ما نطالب به ليس إعادة النظر في مبدأ الحد الأقصي للأجور ولكن إعادة النظر في أسس تطبيقه. إن رفع السقف النقدي عن البنوك ليس استثناء من تطبيق الحد الأقصي، فيجب أن يظل الحد الأقصي للأجور قائماً في البنوك، ولكن مع إزالة السقف النقدي، وربط الأجور والمرتبات فيها بالأرباح ومدي المساهمة في دعم الاقتصاد القومي. فيظل النص علي ألا يزيد الحد الأقصي للأجور عن 35 ضعفا أو حتي أقل من هذا قائماً، ليس في إعادة النظر في هذه المسألة مظاهر ضعف للدولة أو تراجع، بل دلالة علي عقلانية الدولة ومؤسساتها وموضوعيتها. اللينك
استمع الي مقالي عبر اقرأ
لي.. ارجو ان ينال اعجابكم. اللينك
|
معظم الكلام م دا مش مظبوط
ردحذفما تعرفنا المظبوط يا سبق عصرك وزمانك
حذف