الخميس، 1 أكتوبر 2015

الديمقراطية السياسية والتنمية الاقتصادية

جريدة الاخبار - 1/10/2015

كان دائماً رأيي أن الحقيقة تقف بين الأمرين، فلا شك أن النظم الديمقراطية أكثر حظاً في تحقيق نمو اقتصادي وتنمية شاملة وتغيير إلي الأفضل.

حينما كنت أعمل كمدرس محاضر بانجلترا في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي؛ كان من أكثر المواد التي كنت أستمتع بتدريسها لطلاب الدراسات العليا في القانون بجامعة لندن هي مادة "القانون والتنمية الاقتصادية". وكانت فلسفة هذه المادة تعتمد علي أن القانون مجرد وسيلة أو أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية، فإذا تحول القانون إلي غاية في ذاته فسدت عملية الإصلاح الاقتصادي، وإذا كانت الأداة  - أي القانون - منبت الصلة عن الغايات الاقتصادية والاجتماعية التي تسعي الحكومات الإصلاحية لتحقيقها، وكانت الفجوة كبيرة بين الوسيلة والغاية؛ فسدت عملية الإصلاح الاقتصادي.

وكان من أكثر المحاضرات التي تثير شغف طلبة الدراسات العليا خاصة من البلدان النامية وتثير جدلاً كبير في المناقشة معهم؛ محاضرة كنت ألقيها عليهم تحت تساؤل عنوانه: "هل يعد تطبيق الديمقراطية السياسية شرطاً ضرورياً لتحقيق التنمية المستدامة؟".وبمعني آخر؛ هل يلزم أن يكون النظام السياسي في دولة ما نظاماً ديمقراطياً حقيقياً لتحقيق النهضة الاقتصادية في هذه الدولة؟

وكانت إجابات ومناقشات الطلبة - وهو ذات الأمر بالنسبة للدراسات التي تناولت هذه المسألة - تتراوح ما بين مؤيد ومعارض.


فهناك اتجاه يري أن تحقيق الديمقراطية السياسية شرط ضروري لتحقيق نهضة اقتصادية واجتماعية مستدامة وحقيقية، وليست مجرد طفرة اقتصادية مؤقتة. وكان هؤلاء يعتمدون لتأييد وجهة نظرهم علي أن التنافسية وسيادة القانون وعدالة النظام القضائي والشفافية والمحاسبة وتداول السلطة وتكافؤ الفرص وديمقراطية القرارات الاقتصادية واستهداف مصلحة الأغلبية من خلال سياسات العدالة الاجتماعية؛ أمور لازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وهي أمور لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل نظام ديمقراطي سليم يحقق مبدأ الفصل بين السلطات، وتكون فيه الرقابة القضائية والبرلمانية علي أعمال السلطة التنفيذية صارمة وعادلة. ويستدل أصحاب هذا الاتجاه لدعم رؤيتهم بما حدث في أوروبا والولايات المتحدة، وتجارب بعض الدول النامية الناجحة كما حدث في البرازيل وتركيا والأرجنتين والمكسيك.


وأما أصحاب الاتجاه الثاني، فيرون أن الديمقراطية السياسية لا تكفي في ذاتها لتحقيق التنمية الاقتصادية، وأن هناك نظما ديمقراطية تعثرت في تحقيق التنمية، ويضربون لذلك مثالاً بالهند،فرغم عراقة النظام الديمقراطي بها إلا أنها شهدت تعثرات اقتصادية واجتماعية كبيرة خلال حقبة الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وعلي النقيض هناك أنظمة غير ديمقراطية تعتمد علي نظام الحزب الحاكم الأوحد، ونظرية الحاكم العادل نجحت في تحقيق إصلاحاً اقتصادياً واجتماعياً شاملاً، وحققت طفرات وقفزات اقتصادية غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، ويضربون لذلك أمثلة عديدة منها الصين وسنغافورة وماليزيا.

وكان دائماً رأيي أن الحقيقة تقف بين الأمرين، فلا شك أن النظم الديمقراطية أكثر حظاً في تحقيق نمو اقتصادي وتنمية شاملة وتغيير إلي الأفضل، وعلي الرغم من تعثرات الهند إلا أنها نجحت في النهاية في تحقيق نمو حقيقي، ونفس الأمر ينطبق علي تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية. فالنظم الديمقراطية تسمح بمساحة أكثر للإبداع الإنساني، والتنوع الثقافي والانفتاح علي العالم، وتكريس التنافسية لصالح المستهلكين، والقضاء العادل الناجز، وفاعلية الجهاز الإداري وخلوه من الفساد البيروقراطي كنتيجة لتداول السلطة والتنافس السياسي للحوز علي دعم الأغلبية، والحرص علي دمج أكثر العناصر كفاءة للجهاز الحكومي والتنفيذي، ناهيك عن الرقابة القضائية والبرلمانية الصارمة، وفاعلية منظمات المجتمع المدني في كافة الاتجاهات. فهذا المناخ يكون عادة أكثر إيجابية ودافعاً للنمو الاقتصادي المستدام، يمثل بيئة صالحة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة.

ومع ذلك كله، لا يمكن إنكار الواقع وأن هناك استثناءات علي هذه القاعدة، وكل دول شرق آسيا أو النمور الآسيوية دليل دامغ علي هذا الاستثناء، فرغم أنها جميعاً لم تستند في انطلاقها علي نظام سياسي ديمقراطي إلا أنها نجحت في تحقيق تنمية مستدامة بمعني الكلمة. ولكن هذه النظم غير الديمقراطية اعتمدت في نجاحها علي تبني عناصر أساسية تتفق في جوهرها مع مبادئ النظم الديمقراطية، وإن لم تتفق معها في الإطار الخارجي.فهذه الدول غير الديمقراطية نجحت في تحقيق التنمية الاقتصادية اعتماداً علي ركائز ستة رئيسية شأنها في ذلك شأن كافة النظم الديمقراطية؛ ألا وهي:

وجود رؤية واضحة وشاملة للإصلاحين الاقتصادي والاجتماعي لدي القيادة السياسية، صاحبها خطة تنفيذية سنوية لأولويات الإصلاح، مع التمسك بتعيين أفضل العناصر والخبرات في الإدارة والجهاز الحكومي، والتخلص من أية عناصر غير صالحة أو غير مؤمنة بهذه الرؤية أو غير قادرة علي تنفيذها.
- تطبيق مبدأ سيادة القانون بحذافيره، وإعلاء كلمة القانون، والضرب بيد من حديد علي أيادي الفاسدين، وإصلاح النظام القضائي وتطويره، وتحقيق العدالة الناجزة، وتطبيق المساءلة والمحاسبة العلنية.
- احترام مبدأ التنافسية وتشجيع الصناعات الوطنية، ودعم الاستثمار بسياسات مالية ونقدية واضحة غير ملتبسة أو متلعثمة.
- تبني سياسات إصلاح مؤسسي حكومي جادة، وتولي أفضل العناصر القيادة، وتطبيق مبادئ الحوكمة المؤسسية والإدارية علي كافة أجهزة الدولة.
إصلاح التعليم الأساسي، والاهتمام بالتدريب الفني، ودعم النظام الاجتماعي بالعمالة المهرة، وفتح الباب للإبداع الفني والتكنولوجي، والاهتمام بنقل التكنولوجيا والبحوث العلمية.
تبني سياسات قاطعة في مجال العدالة الاجتماعية من خلال تبني سياسات لدعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة لتحقيق نقلة نوعية ومستدامة في حياة عشرات الملايين من أبناء هذه الشعوب، والاهتمام الحقيقي بملف الصحة العامة.

هذه العوامل الستة المشتركة التي أدت بهذه الدول إلي النجاح، وكما نري كلها عوامل أيضاً مشتركة مع النظم ذات الطبيعة الديمقراطية السياسية. ولا شك أن هذه العوامل نجحت في تحول بعض هذه المجتمعات إلي المجتمع الديمقراطي كما يحدث الآن في سنغافورة وماليزيا، وكما حدث في تايلاند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية. فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية ستؤدي حتماً إلي نظام مدني ديمقراطي، والديمقراطية تؤدي في الغالب الأعم إلي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فإذا بدأنا في تبني تطبيق عوامل التنمية الشاملة الستة، ومزجنا معها احترام حقوق الإنسان الأساسية سيكون مصيرنا الحتمي تحقيق التنمية المستدامة بشكل غير مسبوق في تاريخنا، والمدخل الطبيعي أيضاً إلي الديمقراطية السياسية التي نبغيها، والدول التي سبقتنا ونجحت حققت قفزتها الأولي الهائلة خلال جيل واحد، أي خلال 10 سنوات أو أكثر، وتوالت بعد ذلك القفزات لهذه الدول، هذا ما حدث في كوريا الجنوبية وماليزيا والصين والبرازيل وتركيا... علينا أن نبدأ في الإصلاح ولا نتردد. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك

0 التعليقات:

إرسال تعليق